كان الشعب الليبي يحتاج إلى الحرية والعدل والمساواة، ولم يكن ذنبهم أنهم تغيروا ولم يتغير القذافي. وكم نحن مدينون لهذا العام الجيد لا جرذان في ليبيا بعد اليوم، لا تحشيش سياسيا، ولا كتب ملونة، ولا ملوك لأفريقيا أو حتى لباب العزيزية. الطاغية يسقط، ومعه كل التماثيل الصغيرة التي صنعها بيديه، وكل الأحراز، والنظريات العالمية المفخخة، والقمصان المشجرة. وكم أطرب لصوت الأرض حينما يرتطم بها طاغوت معتق، أو تمساح كالشيخ معمر! وكم أحسد الغربيين أيضاً على قلة تماسيحهم البشرية، وعلى ذوقهم العالي في اختيار لحظة الحضور والانصراف دون تلكؤ. القذافي كان نموذجاً متكاملاً لما يمكن أن تكون عليه الديكتاتوريات العربية التي تدعي الديموقراطية في هذا العصر، والسؤال المزعج لبقية الرفاق من نفس المدرسة، الذين يترنحون حالياً: "الدور على مين يا حلوين؟" وإلى متى وأنتم تتفرجون على مصائر الرفاق المعمرين ولا تُصلحون؟ وهل تعتقدون حقاً أنه لن يصيبكم ما أصابهم؟! الأفق الملبد يوحي لك أن 2011 هو عام عربي بامتياز، وأنه لن يرتب حقائب سفره، ويمضي قبل أن يُضحي بكبشين آخرين، ولن نستغرب أبداً. فهذا عام سيئ لبعض الحكام العرب، وعلى المندهشين مما يحدث وسيحدث، التقاط اللحظة التاريخية للانصراف الطوعي قبل خراب مالطا، أو ربط الأحزمة، وتحري الدقة في قراءة كفوف الندامة، وطوالعها، وودعها، والأهم الاستعداد لما سيأتي فالرحلة شاقة جداً، ولن تجدي معها التعاويذ، والرقى، والتمائم، وتقليم أظافر الثوار كل يوم جمعة! الشيخ معمر يدعو أتباعه اليوم للجهاد، وطرد الصليبيين والغزاة، ويحذر أهل طرابلس من التولي يوم الزحف، يكتشف أنهم أقوى بإيمانهم الذي سحقه هو لأربعين عاماً، وأنه من الممكن أن يسيروا إلى الأمام إلى الأمام من أجله.. إذاً آمن الرجل الطيب فجأة، وأصبح شيخاً صالحاً يجاهد في سبيل الله، ويفرق بين الإيمان والكفر، بل ويرسل تسجيلات صوتية جهادية لحث المريدين على الموت نيابة عنه وعن أبنائه، وربما يخرج علينا قريباً بلحية وقرآن كريم تيمناً بمن مضى من الزملاء والخلان، عندما ضاقت عليهم الدنيا بما رحبت، ويا لآل فرعون حينما يأتي إيمانهم بعد الغوص في اليم! هذا ليس رجوعاً إلى الله في الشدائد، بل ربما هو أقرب إلى المتاجرة بعقول العامة، وإلا لماذا لا نرى المصاحف في الأيدي الناعمة، ولا كلمات الجهاد والإيمان الطازج على هذه الألسن الرقيقة، إلا حينما ينتهي كل شيء، ويصبح آل فرعون وسحرتهم خارج الحكم؟! المفارقة هنا أن الشيخ معمر نفسه هو من قدم الكتاب الأخضر كبديل عن القرآن الكريم ذات يوم خال من الزنقات، والجرذان، والمحببين كما يقول، وكم يُضحكني هذا التحول المفاجئ والمكشوف في حياة البشر، وكذلك المشيخة التي تأتي على غفلة ودون مقدمات! لكن المحصلة الرائعة لكل العرب أن طرابلس لم تعد في يد الشيخ، وإن شاغلها وأشغلها بكتائبه ومرتزقته، وأن الجرذان أصبحوا بالفعل هم من يطارده من جحر إلى جحر. فمن الجرذان اليوم يا شيخ معمر؟! بالتأكيد لم يكن المطلوب من جنابكم الكريم إصلاح جرة فول، ولا فتح صيدلية على ناصية شارع، ولا وعودا كاذبة بإصلاح (عاجل وليس متعجل) كما يقول صديقكم زعيم الشبيحة في سورية، بل شعور حقيقي بمواطنة حقيقية لمجموعة بشر يعيشون مع جنابكم في ليبيا يسمون بالمواطنين! كانوا يحتاجون إلى الحرية والعدل والمساواة، ولم يكن ذنبهم أنهم تغيروا ولم تتغير أنت. وكم نحن مدينون لهذا العام الجيد، وسيكون القادم أجمل بإذن الله، وبأيدي الشعوب التي طفح كيلها. أما حكاية التدخل الأجنبي وحلف الناتو، والمصالح الغربية، فهو واقع أجبرتم عليه الشعوب المظلومة ولم تختره ترفاً أو سمعة، ولا أعتقد أن المطلوب من المظلومين أن يصبروا على مرارة الإذلال والقتل إلى الأبد، وأنتم لا غيركم من أوصلهم إلى هذه الحالة، وستتحملون المسؤولية كاملة أمام التاريخ، إن كان ثمة تاريخ عربي يمكن الركون إليه في هذا العصر. المليء بالشبيحة، والمرتزقة.