أقبل كعادته ليسلّم عليّ وقد ناهز الستين من عمره، إلا أنّه هذه المرّة ليس بطلّته البهيّة التي اعتدت عليها في كل صباح، أقبل بعينين محمرّتين، وكأنهما قد ابتلتا بالدمع قبل مجيئه، حيّاني بتحية الإسلام بالعربية، ثم أردف يسألني باﻹنجليزية كعادته, عن حالي، وحال عائلتي، طمأنته عن الحال، وسألته عن حال عائلته في تلك البقعة الفقيرة,و البعيدة, في موطنه اﻷصلي، بنغلاديش - قد اخبرني قصتهم ذات يوم، وعن فقده لزوجته قبل ثمان سنوات، بسبب مرضٍ غامض، وقد خلّفت له ابنتين، وأنّهما يسكنان عند أحد أقاربه, وهو العائل الوحيد لهما، كبرت البنتان وأصبحتا في الجامعة، وهو هنا، في الرياض ،يعمل في الصباح والمساء, لتوفير لقمة العيش لفلذات كبده، ولتلبية طلباتهما، من مصروف مادي, ومستلزمات دراسية, ورسوم سنوية، يدفعها للجامعة عن ابنتيه- أجاب على سؤالي بطلب، قائلا: " أرجوك ادع لابنتي, فإنها ترقد في المستشفى اﻵن" ، سألته: ما الذي حدث لها؟ قال: سقطت من مكان عال على اﻷرض، قطع لسانها, وكسر عظم كتفها، فخيط اللسان بثمان غرز، وزاد قائلاً وأنا لحديثه استمع, طلبت منها الكلام لأتأكد, وأطمئن على صحتها, فما سمعت منها, إلاّ تأوهاتٍ بلا كلمات، وفجأة سكت الرجل، نظرت إلى عينيه, اذ بالدمع يسيل على خدّيه، لم يتمالك نفسه، ودّعني وهو يردد الدعاء, الدعاء, ثم رحل. كم من مغترب في بلدنا، ترك عائلته ووطنه، من أجل توفير لقمة عيش ﻷبنائه، يلاقي ما يلاقي من آلام الهجر والغربة، ومن الفقر والقسوة, ومن استحقار بعض السذج من أبناء البلد له، ممن يسكنون وطنهم، ويعيشون برغد بين عائلاتهم, يحسبونه هينّا, وهو عند الله عظيم. إن المغترب لم يأتِ إلى هنا ليُحتقر, ولكن ليعيش كريما, ولم يأت ليكون عبداً بين يديك, بل ليكسب رزقاً حلالاً أحله الله له, فأرجوك يا من تحت سلطته مغترب, ارحم ضعفه, وشد على أزره, وكن معه متواضعا, وعند الحديث ليّنا، فأنت لا تعلم ما الذي يؤرق مضجعه. ومضة:- هم الآن ضعفاء, ومنكسرون بين أيدينا, ونحن الأشداء, ونحن من يملك القدرة على العطاء, لذا دعونا نمدهم بالحب, والرحمة والدعاء, فربّ دعوة لك من ضعيف, تفتح لها أبواب السماء.