الشروق - القاهرة اغتيال ثلاثة قضاة حدث جلل بأى معنى قانونى وسياسى وإنسانى. فهو ينذر بانفلات العنف من كل قيد وانفلات ردات الفعل عن أى قانون. استهداف القضاة ليس جديدا لكنه هذه المرة يختلف عن أية مرات سابقة. نحن أمام قتل منهجى على الهوية وترويع جماعى للقضاة لمجرد أنهم قضاة دون أن تكون لهم أدنى صلة بأية تحقيقات أو أية أحكام تخص جماعة الإخوان المسلمين أو أية جماعات أخرى مسلحة. فى قضية اغتيال القاضى «أحمد الخازندار» التى هزت المجتمع المصرى أوائل (1948) سوغ الجهاز الخاص لجماعة الإخوان المسلمين استهداف حياته بأحكام مشددة أصدرها بحق بعض منتسبيها. التسويغ نفسه تبدى بعد سبع وستين سنة فى محاولة اغتيال القاضى «معتز خفاجى» الذى حكم فى عنف «كرداسة» وأحداث «مكتب الإرشاد». لحقب سياسية متصلة عزت الجماعة ما هو منسوب إليها من عنف إلى افتراء خصومها وأحيانا إلى انفلاتات داخلها تناقض طبيعتها السلمية. كان اغتيال رئيس الوزراء «محمود فهمى النقراشى» قرب نهاية (1948) نذيرا ثانيا، بعد «الخازندار»، إلى مكامن العنف فى بنية الجماعة. أفضى اغتيال «النقراشى» إلى أوسع تنكيل بالجماعة والنيل من حياة مرشدها «حسن البنا» بعد نحو خمسة وأربعين يوما. قرب اغتيال «البنا» غلبه قلقه على حياته وعلى مصير الجماعة التى أسسها وهو يرى الحصار يحكم تماما على كل ما بناه فى نحو عشرين سنة حتى صلب عودها وقوى بنيانها. كل شىء انهار أمامه تحت وطأة انفلات الجهاز الخاص وضلوعه فى أعمال عنف تواصلت بعد اغتيال «النقراشى» إلى استهداف مكتب النائب العام بعبوة متفجرات. فى محاولة إنقاذ أخيرة كتب «البنا» بيانه الشهير «لا إخوان ولا مسلمين» واصفا الذين تورطوا فى العنف من جماعته. رأى كثيرون أن بيان المرشد المؤسس مناورة سياسية فى الوقت بدل الضائع. لم يكن ذلك دقيقا فقد بدا مستعدا للاعتراف أمام نفسه قبل الآخرين أن الجهاز الخاص الذى أفلت عنفه هو من طبيعة مشروعه وليس مقحما عليه. بحسب مذكرات أقرب معاونيه الشبان الدكتور «عبدالعزيز كامل»، الذى تولى فيما بعد أمانة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، فإن مؤسس الجماعة قال أمامه وهو يروح ويجىء قلقا قبل نهايته: «لهذا خلق الله الندم». رغم الخبرة المريرة فإن الندم لم يستقر فى الأفكار والتصرفات وتورطت الجماعة مجددا فى محاولة اغتيال رجل يوليو القوى «جمال عبدالناصر» عام (1954). وكان الثمن فادحا على بنية الجماعة ومستقبلها لنحو عشرين سنة تالية. عندما طالع «عبدالناصر» فى منتصف الستينيات كتاب «معالم على الطريق» ل«سيد قطب» استنتج أن «هذا الفكر وراءه تنظيم». طلب من سلطات الأمن البحث والتحرى بكل سرعة وجدية عن تنظيم ما يتأهب لعمليات عنف وهو استنتاج أثبتت الوقائع صحته. يولد العنف فى الأفكار أولا، وهذه معضلة أية اقترابات أمنية من ملف الإرهاب بلا غطاء سياسى أو فكرى وثقافى. كلام كثير الآن عن الغطاء السياسى دون أن تكون هناك أدنى مؤشرات عليه. وكلام كثير آخر عن الغطاء الشعبى رغم أنه قد يرفع تحت ضغط السياسات الاقتصادية التى تنتسب لنظام «حسنى مبارك». تجفيف المجال العام تحريض على العنف والصراخ الإعلامى تحريض آخر. كلما تراجعت دولة القانون ترتفع معدلات العنف. كلما انتهكت آدمية الموقوفين فى السجون وسدت أية منافذ سياسية فإن أى حديث عن نهاية قريبة للعنف والإرهاب خداع للنفس. لم يعد هناك أى احتمال فى أى مدى متوقع لمصالحة مع جماعة توغلت فى العنف غير أنه من الخطأ الفادح إصدار أحكام سياسية عشوائية تسند الإرهاب إلى كل من انتسب للجماعة أو تعاطف معها. الكلام على هذا النحو هو نفسه إرهاب. بذات القدر فإنه من الخطأ الفادح وصم أية جهود بذلت لإصلاح البنية الفكرية للجماعة وتجديد خطابها السياسى بأنها تمثيلية وتوزيع أدوار. هذا تسطيح للتاريخ ينزع عن الجماعة بشريتها، فهى كأى جماعة أخرى تتنازعها الصراعات. وقد كانت سيطرة «المجموعة القطبية» التى تنتمى إلى تنظيم (1965) على مفاصل التنظيم من أسباب الفشل الذريع فى إدارة الدولة والتوغل فى العنف. سعت إلى مصادرة ثورة «يناير» والتكويش على السلطة، أقصت الأطراف السياسية الأخرى وتحالفت مع أكثر الجماعات تطرفا وعنفا، تحرشت بالمحكمة الدستورية العليا وشنت حملة ممنهجة على القضاء وعملت على فرض سيطرتها على المؤسسة الأمنية وتحرشت بالمؤسسة العسكرية وروعت الإعلاميين بالقوائم السوداء والمشانق المرسومة على لافتات كبيرة فى الميادين. تصورت أن بوسعها حسم الصراع بالقوة، أن تكسب كل شىء أو أن تخسر كل شىء. لم تستوعب أنها خسرت السلطة لفشلها فى إدارة الدولة والحفاظ على ثقة مواطنيها. تحت ضغط المواجهات العنيفة تماسكت الجماعة نسبيا دون انهيار مدو لكن هذا مؤقت. لم يعد العنف انفلاتا من جهاز خاص أو من أطراف نافذة فى الجماعة بقدر ما أصبح ممنهجا واستراتيجيا. وهذا نذير نهاية لن تتأخر كثيرا. أيا كانت الأخطاء التى ارتكبت بعد (30) يونيو بحق ضحايا وأبرياء فإن الثورة كانت محتمة لإنقاذ البلد من احتراب أهلى هددت به قيادات الجماعة وأنصارها من فوق منصة «رابعة العدوية». أكبر غطاء سياسى لأية انتكاسات جرت وفرته بسخاء جماعة الإخوان المسلمين. بمعنى آخر فإن عنفها فزاعة جديدة تمنع أى تطلع لبناء دولة مدنية حديثة أو أى تحول محتمل إلى الديمقراطية. لا إصلاح مؤسسة العدالة ممكن ولا إصلاح مؤسسة الأمن متاح ولا استقلال الجماعات فى متناول اليد. أيا كانت الانتقادات الموجهة لمؤسسة العدالة، التى تضررت سمعتها بما يناقض تاريخها التليد، فإن أحدا لا يقبل استهداف قضاتها إلا أن يكون معتوها. فهذا رهان كامل على الخراب وتقويض كل المؤسسات لا إصلاحها. الرهان خاسر سلفا لكنه سوف يكلف البلد فواتير باهظة. خسرت الجماعة بفداحة من استهداف مؤسسات الدولة عندما كانت فى السلطة غير أن خسارتها الآن من قتل القضاة على الهوية تبدو كانتحار مؤكد. لا «الانقلاب سوف يترنح» ولا «مرسى سوف يعود» على ما يقولون. حكم الجماعة صفحة وطويت فى التاريخ. ما قد يحدث أن أية أحاديث عن أية انتهاكات لحقوق الإنسان سوف تكون بالغة الصعوبة. الرأى العام المروع غير مستعد للتجاوب مع أية نداءات من مثل هذا النوع مهما كانت عدالتها. القضاء نفسه سوف يدخل فى محنة كبيرة قد تعصف بأية فرصة لأن يأخذ العدل مجراه، يعاقب من أوغل فى الدم ويبرأ من لا تثبت بحقه التهمة. هم بشر حياتهم معرضة للخطر. إن جاء حكم القضاء مخففا فقد يقال إن أياديه ارتعشت من جراء الترهيب. وإن جاء حكمه مغلظا فقد يقال إنه ينتقم بالشبهات. فى الحالتين تسييس ما. بذات نزعة التسييس فإن هناك إدانات متواترة من دول كبرى ومنظمات حقوقية لأحكام الإعدام التى صدرت بحق قيادات الإخوان فى قضيتى «التخابر» و«الهروب من سجن وادى النطرون» وإغفال شبه كامل لمقتل القضاة الثلاثة على الهوية. التسييس هو أخطر ما يعترض أية عدالة هنا أو فى أى مكان بالعالم. فى السياق نفسه من غير المستبعد ممارسة الحد الأقصى من عنف الدولة. عندما يتوغل العنف وتستباح دماء الأبرياء يصعب الحديث عن أى قانون أو أية قواعد إنسانية. وعندما «تتدعش» أكبر وأقدم الجماعات الإسلامية فإنها سوف تتقوض من داخلها وتحكم الحصار على مستقبلها دون أن تكون لديها فرصة أن تردد مقولة مؤسسها: «لهذا خلق الله الندم».