حظرت العديد من التشريعات التي تنظم الوظيفة العامة - ومنها المملكة - الجمع بين الوظيفة العامة وممارسة وظيفة أخرى، أو الاشتغال بالتجارة وذلك حماية لجناب الوظيفة العامة، وأن يكون من يتولى مهامها متفرغا لها لا ينشغل عنها بأعمال أخرى قد تؤثر عليها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وهذا المبدأ من أشهر المبادئ القانونية التي تحكم الوظيفة العامة في المملكة، حيث تم النص عليه في نظام الخدمة المدنية ولائحته التنفيذية، ولا يتم الاستثناء من ذلك المبدأ إلا بإجراءات خاصة وموافقة من الجهات المختصة، بالإضافة إلى شروط أخرى حددتها الأحكام القانونية التي تنظم شغل ومباشرة الوظائف العامة. وبمرور سريع على القنوات الفضائية في رمضان، وتتبع الأخبار التي تتناقلها وسائل الإعلام عن العقود الفلكية التي تبرمها بعض المحطات الفضائية مع بعض الوعاظ مقابل تقديمهم لبرامج دينية على شاشاتها مع أن بعض أولئك الوعاظ يشغلون وظائف عامة محكومة بنظام الخدمة المدنية التي تمنع الجمع بين الوظيفة العامة وأي عمل آخر بأجر، وحتى على فرضية أن تلك الأعمال تقدم على سبيل (التبرع) فإنها هي الأخرى لابد أن تتم من خلال المنظومة القانونية والالتزام بالضوابط القانونية لممارستها تنفيذاً لمبدأ (التفرغ) للوظيفة العامة الذي توجبه النصوص القانونية. والملاحظ أن معظم أولئك الوعاظ الفضائيين ينتسبون إلى مؤسسات أكاديمية لها ضوابطها وأحكامها الخاصة التي تشدد على التزام أساتذتها بالتفرغ لعملهم الأكاديمي الذي يتقاضون عليه أجراً من الخزينة العامة، حيث تؤكد الفقرة (5) من المادة الثامنة والثلاثين من اللائحة المنظمة لشؤون منسوبي الجامعات السعوديين من أعضاء هيئة التدريس ومن في حكمهم؛ بأنه يجب على الأستاذ الجامعي (أن يتفرغ لعمله في الجامعة، ولا يجوز له العمل خارج الجامعة إلا بعد أخذ موافقة مسبقة وفق الأنظمة واللوائح) وقد حددت اللائحة ذاتها الأحكام الخاصة لإعارة وندب الأستاذ الجامعي الذي عادة ما يكون للمؤسسات والمجمعات العلمية التي لها علاقة بتخصصه الأكاديمي، وعليه فإن من لا يجد في نفسه القدرة على مقاومة إغراء (الفلاشات) الإعلامية وبالتالي عدم قدرته على الوفاء بشرط التفرغ لعمله بالجامعة فليس أمامه إلا الاستقالة منها وفسح المجال لآخرين يكونوا أكثر تفرغاً منه. إلا أن ما يحدث الآن هو تجاوز صريح لتلك القواعد القانونية من بعض الإخوة الذين يمارسون مهنة الوعظ في الفضائيات الذين يشغل بعضهم مناصب أكاديمية في جامعتنا ويمارس في الوقت ذاته عملاً مأجوراً لدى قنوات فضائية على حساب عمله الأصلي في الجامعة، وكل ذلك يحدث على مرأى ومسمع من قيادات تلك الجامعات الذين تقع عليهم مسؤولية تطبيق النظام على الجميع دون أن يكون لأحد الحق في أن يستثنى من أحكامه مهما بلغت منزلته ومكانته، فمن أولى القواعد والمبادئ التي تدرس لطلاب القانون؛ أن من أهم صفات القاعدة القانونية؛ أنها قاعدة (عامة ومجردة)، وأن الناس سواسية أمام القانون، لا مكان لأحد فوقه. ولمفارقة أنك تجد تلك الجامعات التي تغض الطرف عن تسرب أساتذتها إلى مؤسسات إعلامية بعقود ضخمة؛ تقوم بعرقلة الأساتذة الآخرين الملتزمين بقيم مهنتهم وتخصصهم حين يريدون المشاركة في مؤتمر أو ندوة علمية في تخصصهم من خلال شبكة من الإجراءات البيروقراطية التي لا تنتهي، حرمت الكثير منهم من المشاركة والتفاعل مع زملائهم في ذات التخصص، في الوقت الذي ينعم فيه الأساتذة الوعاظ بمكانة خاصة، حيث تشرع لها الأبواب على مصراعيها بلا رقيب. وهذا الملف أضعه بين يدي معالي رئيس هيئة مكافحة الفساد، مع علمي بأن مكتبه متخم بالملفات المتورمة، إلا أن هذه الظاهرة لا تقل خطورة عن بقية حكايات الفساد التي تشكل إحدى وظائف واختصاصات الهيئة، لأن له علاقة مباشرة بحماية الوظيفة العامة، فلابد أن تتابع الهيئة تلك الظاهرة من خلال الكشف عن الصفقات التي تتم بين بعض المؤسسات الإعلامية وبعض الوعاظ من أساتذة الجامعات أو من يشغلون وظائف عامة، والتأكد من ملاءمتها للقواعد التي تحكم الوظيفة العامة وفي حالة وجود أي تجاوزات قانونية أن تعمل الهيئة سلطتها للتحرك لمحاسبة من ساهم في التستر على تلك المخالفات ومن غض الطرف عنها، لأن في ذلك صيانة لهيبة النظام وسيادته، وحماية لرسالة (الدعوة) أن تكون سلعة في بازار الفضائيات.