تختلف الدولة الحديثة، في ما تختلف فيه، عن الامبراطوريات والدول القديمة في حجم المساحة الكبيرة التي تتدخل عبرها في حياة مواطنيها، فهي تتداخل معهم في أرزاقهم، وصحتهم، وتعليمهم، وتنقلهم، وغيرها من الأمور، ومن هذا المنطلق أصبحت العلاقة بين المواطن وأجهزة الدولة - بما تتخللها من حقوق وواجبات - إحدى أهم العلاقات في حياة الإنسان المعاصر. وفي غالبية الدول تمر هذه العلاقة - بما يرتبط بها من حقوق وواجبات - بطورين، وذلك عندما يتحول المواطن من «قاصر» إلى «راشد»، إذ ينبني على هذا التحول بأن يصبح هو أو هي مسؤولين عن أنفسهم قانونياً أمام الدولة، ويستطيعون التعامل معها واتخاذ قراراتهم بشكل منفرد مسؤول عن عواقب هذه القرارات، إلا أن هذا الانتقال من حال «القاصر» إلى حال «الراشد» في السعودية ليس مكفولاً بشكل كامل بالنسبة للمرأة، وهذا ما سنحاول اكتشافه هنا. يعود السبب الأول إلى ظروف تشكّل أجهزة الدولة البيروقراطية ومنظوماتها الحاكمة، فهذه الأجهزة تشكلت في فترة لم يزل فيها المجتمع محكوماً بالتقاليد الأبوية التي تُعطي لرب الأسرة الكثير من الصلاحيات، ومراعاة لهذه الحال تم بناء هذه الأجهزة، بحيث لا يتم التعامل بشكل مباشر بينها وبين المرأة، وإنما عبر قريبها الرجل، بمعنى آخر، تم بناء أجهزة الدولة بحيث تتعامل مع المرأة باعتبارها قاصراً بحاجة لراعٍ أو ولي طيلة حياتها، وأدت هذه الحال من عدم اعتبار «رشد» المرأة واستقلاليتها كفرد، إلى تأثر القطاع الخاص بأجهزة الدولة ومعاملة المرأة - مثلما يحدث في البنوك والمستشفيات مثلاً - كقاصر أيضاً، ولئن كان هذا الأمر مقبولاً ومتفهماً - بل مطلوباً - في بدايات تشكّل أجهزة الدولة، لانتشار الأمية، وكون متوسط عمر الزواج للمرأة مقارباً أو حتى أقل من سن الرشد، وعدم حاجتها لقضاء حاجتها بنفسها، وتحكم التقاليد بالمجتمع وما إلى ذلك، فإن هذه «التسهيلات» التي انبنت عليها هذه الأجهزة، تحولت إلى «قيود» وعوائق، مع توفر شريحة كبرى من النساء ذوات المؤهلات العلمية، وما تسببه الحياة الحديثة من طول في فترة العزوبة، وتجاوز متوسط عمر زواج المرأة لسن رشدها، وانحسار لكثير من القيم الأبوية لمصلحة القيم الفردية. إضافة إلى هذا السبب، نجد أيضاً الخطاب الإسلامي وتياراته المختلفة حريصة على تثبيت وضع المرأة هذا بمبررات دينية تتشاركها مع أجهزة الدولة، وتقوم هذه المبررات الدينية على مغالطة كبرى تتمثل في «تمطيط» معاني مفهومين دينيين: الأول هو «ولي الأمر»، والثاني هو «المحرم». فمراجعة سريعة لمدونات الفقه تبين لنا أن اشتراط إذن «ولي الأمر» يمس جانباً واحداً من جوانب حياة المرأة وهو الزواج فقط، وهذا الاشتراط هو قول الجمهور، إذ إن أبا حنيفة رأى الأمر بشكل مختلف، فهو اعتبر اشتراط إذن ولي الأمر خاصاً بالفتاة الصغيرة (القاصر)، ونفى هذا الشرط عن الكبيرة (الراشدة)، التي اعتبرها مستقلة بنفسها، قياساً على استقلالها بنفسها في معاملاتها المالية، وسواء اعتبرنا اشتراط إذن الولي ينطبق على المرأة عموماً، أو قصرناه على القاصر، فإن هذا الاشتراط محصور فقط في مسألة الزواج فقط ولا يتعداها لغيرها من الأمور، مثل اشتراط إذن ولي الأمر في تنقلات المرأة الراشدة وعملها وتعليمها وغيره، فهذا «التمطيط» لاشتراط ولي الأمر أمر مستحدث ليس له أي مبررات دينية. نجد «التمطيط» نفسه يحدث مع مفهوم آخر وهو «المحرم»، فأدلة المحرم الشرعية كلها مرتبطة بالسفر، إذ كان السفر في تلك الأيام خطراً وتحتاج المرأة لمن يحميها فيه، ولكننا نجد هذه الأيام انقلاباً في توظيف هذا المفهوم في حياتنا الحديثة، فمع تطور وسائل النقل وتكفل الدولة الحديثة بتوفير الأمن لمواطنيها، انتفت أخطار السفر، وأصبحت المرأة تسافر لوحدها من دون حاجة لمحرم، لكن وجود المحرم الذي كان ضرورياً في السفر بسبب الخطر، أصبح اليوم مطلوباً من المرأة في عملها وتعليمها ومراجعتها للإدارات الحكومية وغيرها. ونقل «المحرم» هنا من سياق السفر وما يمثله من خطر إلى سياق الدولة وتعامل أجهزتها مع المرأة كمواطن هو أيضاً أمر مستحدث وليس مبنياً على أي مبررات دينية. وإلى جانب إخفاق الفتوى في اعتبار «رشد» المرأة - على رغم أن الإسلام تعامل معها كمكلفة مسؤولة عن أعمالها بشكل متساوٍ مع الرجل - نجد أيضاً أن الخطاب الليبرالي يتشارك معه هذا الإخفاق، فهذا الخطاب تتركز مطالباته لا على اعتبار رشد المرأة واستقلالها بشؤون نفسها، بل على نقل الصلاحيات الممنوحة لولي الأمر والمحرم من قريبها الرجل إلى الدولة، فنجد اقتراحاته لمواجهة المشكلات التي تعانيها المرأة من عدم اعتبارها كراشد هي عبارة عن مطالبات بتدخل الدولة في اقتحام الحيز الخاص للأفراد من أجل «إنقاذ» المرأة من الرجال. ومهما يكن من أمر، يمكن القول إن هناك خطوات اتخذتها الدولة للتعامل مع المرأة كراشدة، يمكن ملاحظتها على مدى العقد الماضي، ابتداءً من إصدار بطاقة هوية خاصة بها، والتوقيع على اتفاق «السيداو» الذي يُعنى بالقضاء على أشكال التمييز كافة ضد المرأة وغيرها من الجوانب، إلا أن هذه الخطوات بحاجة إلى أن تتسارع لنصل للمرحلة التي تتمكن فيها المرأة من الوصول لسن الرشد بشكل متساوٍ مع الرجل أمام القانون.