في ظل الحالة المدنية التي نعيشها، يجب أن يتطور أداء وآليات الاحتساب الرسمي والتطوعي ولا يترك للاجتهادات الشخصية والفئوية. حيث مؤسسات الدولة تقوم بتطبيق مفهوم الحسبة أفضل مما كان يدار به بالأمس ويعتبر جزءا كبيرا من مهماتها يبدو بأننا نجابه معضلة عويصة في مسألة تطبيق مفهوم الحسبة على أرض واقعنا في ظل المتغيرات والمستجدات المدنية التي نعيشها. ومن أسباب ذلك إصرار بعض أصحاب الأجندات الخاصة على إبقاء حالة تطبيق مفهوم الحسبة، كما كان عليه قبل ولوجنا للحالة المدنية، من أجل استخدامها كقنوات لتمرير أجنداتهم الخاصة والتلويح بها "الحسبة" كعصا في وجوه من عدوهم خصوم لأجنداتهم الخاصة الضيقة من رسميين وتيارات مدنية فاعلة في تحديث وتمدين المجتمع. قبل ظهور الدولة الحديثة لدينا، كانت قيادات المجتمع تدير شؤون المجتمع من ناحية الضبط الداخلي والدفاع الخارجي بمفهومي الحسبة والجهاد، كما حددتها وضبطتها وفصلت طرق وسبل تطبيقها مراجعنا الدينية المعتمدة الأولى. كما تم تطبيقهما بنفس الطريقة التي طبقتها قيادات المجتمع والدولة الأوائل وذلك لعدم تغير ظروف ومعطيات عصرهم عن عصور من سبقوهم، أما الآن فهناك تغير يستوجب إعادة النظر فيهما أو مراجعتهما لا من ناحية المفهوم ولا التطبيق. كان ضبط الأمور الداخلية في الدولة السعودية بالبلدات أو القرى عن طريق جهاز حسبة صغير، يتولى مراقبة الأسواق التجارية والتأكد من عدم الغش فيها من ناحية المكاييل والمقاييس وكذلك سلامة البضائع المعروضة وعدم الغش بها وكذلك الاطمئنان على سلامة الطرقات وكذلك مكافحة الجريمة بشكل عام والمنكر البين والمتفق على إنكاره من قبل المجتمع بشكل خاص. وكان رجال الأمير (الخويا)، وهم كذلك عدد صغير ينفذون أوامر الأمير بالقبض أو تنفيذ العقاب والسجن الصادرة بموجب حكم شرعي صادر من قبل قاض البلدة أو القرية. وهذه بالتحديد هي الأجهزة الرسمية الدائمة التي يستعين بها الأمير على إدارة وضبط شؤون القرية أو البلدة آنذاك. أما من ناحية إدارة الضبط الخارجي لمنع التعدي على الحدود، فكذلك يدار عن طريق الجهاد. وذلك عندما يقترب خطر خارجي من حدود الدولة أو يعتدي عليها؛ فأمير الدولة أو الإمام، يطلب من أمرائه على المدن والمناطق تجنيد العدد المطلوب من كل بلدة وقرية وقبيلة من الرجال القادرين على حمل السلاح وإرسالهم إلى نقطة الخطر، ومنهم تشكل الدولة جيشها لصد الخطر عنها وتأمين حدودها. مع العلم بأن كل مجند هو من يجهز نفسه بالسلاح والراحلة وإذا انتهت الحرب يتم مكافأته من غنائم الحرب ويعود بعدها يزاول حياته الطبيعية وعمله المعتاد. وبالمجمل هذه الطريقة التي كانت تدير فيها الدولة السعودية حتى في السنوات الأولى من عهد المغفور له الملك عبدالعزيز نفسها. وهذه الطريقة كانت لا تختلف كثيرا عما كانت تدار عليه الدولة في جميع مراحل الإسلام التاريخية. ولذلك لم يكن هنالك داع لتجديد مفهومي الاحتساب ولا الجهاد لا من ناحية المعنى ولا أسلوب تطبيقهما على أرض الواقع. ولكن عندما أخذ الملك عبدالعزيز بتحديث الدولة وأجهزتها كما حتمته عليه المرحلة ومعطيات العصر، أول ما عمل به هو تكوين جيش وطني محترف مدرب على استخدام الأسلحة المتطورة والحديثة وجعل عملية الدفاع عن حدود الوطن من مهمة هذا الجيش الوطني ولا دخل للمواطنين في ذلك. وعلى هذا الأساس تم الاحتفاظ بمفهوم الجهاد القائم ولكن تم استبدال أسلوب وطريقة تنفيذه على حسب معطيات العصر من تقنيات وتنظيمات حديثة. ومن هنا تم الفرز العقلاني بين مفهوم الجهاد الذي ورد في مراجعنا الدينية وبين أسلوب تطبيقه؛ حيث تم الاحتفاظ بالمفهوم والتخلي عن أسلوب التطبيق، كما كان مطبقا طوال التاريخ الإسلامي ولم يعتبر أحد هذا إخلال بقدسية شعيرة الجهاد. وكذلك تم إحداث دوائر للشرطة ومكافحة المخدرات وبلديات وشؤون صحية وتم فتح فروع لها بكل المدن والمناطق والتجمعات القروية وحتى الهجر. وأصبحت هذه الدوائر الحكومية الحديثة تقوم بالأدوار التي كانت تقوم بها قديما ما عرف بالحسبة، من مراقبة للأسواق من حيث المكاييل والموازيين ومكافحة الغش وحتى تنظيم الشوارع والطرقات من ناحية نظافتها وسلامتها والتأكد من عدم الاعتداء عليها ومكافحة الجريمة بكل أنواعها. وقامت هذه الدوائر بتقديم خدماتها وتطوير أدواتها وآليات عملها وتدريب منسوبيها بكل احترافية عالية. ولم يبق للحسبة إلا دور واحد وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومع كون جهاز الحسبة القديم كان يقوم بأداء واجبه بكل احترافية واقتدار في أداء مهامه آنذاك؛ إلا أن جهاز الحسبة اليوم يعاني صعوبات في أداء مهامه اليوم. وذلك لكونه قديما كان يتحرك ضمن قرى وبلدات صغيرة تركيباتها السكانية متماثلة ومتجانسة جدا وفيها مفهوم المعروف والمنكر متفق عليه، وقل أن يتغير بأسباب خارجية وتنموية، حيث لا وجود لذلك لديهم آنذاك. ولكن عندما اتسعت البلدات وأصبحت مدنا مليونية وتنوع الناس داخلها، اختلف لدى فئاتها تحديد ما هو منكر وما هو معروف وخاصة كونها كذلك تحتوي على سكان ليسوا من المملكة وحتى ليسوا بمسلمين. فالمدن الكبيرة تدار بالأنظمة والقوانين والتي تعمل بها دوائر الحسبة الحديثة من شرط ومكافحة مخدرات وبلديات ودوائر صحية وحتى إعلامية. فالأنظمة والقوانين غير قابلة للتفسير أو الاجتهادات الفردية ولا الفئوية، أما مفهوم المنكر والمعروف فيختلف في تفسيره والاجتهاد به من شخص لآخر ناهيك من فئة اجتماعية وأخرى. عدا عن كون عجلة التطور والتنمية البشرية المتسارعة والتحديثات المدنية المستجدة والتأثيرات الخارجية المتواصلة جعلت منكر الأمس القريب معروف اليوم ومعروف اليوم منكر الأمس القريب. كما أن مفهوم الاحتساب التطوعي غير الرسمي، الذي كان مقبولا بالأمس، لم يعد مقبولا اليوم البتة، خاصة في ظل نمو المدن ونشاط المجتمع المدني الأهلي وتنامي مؤسسات المجتمع المدني والتي أخذت تحل محل الاحتساب التطوعي. فمؤسسات المجتمع المدني مثل مؤسسات حقوق الإنسان وأصدقاء المرضى ومكافحة التدخين وحقوق المستهلك ورعاية المعوقين والأيتام والأطفال المعنفين وما شابهها، والتي يديرها ويصرف عليها أفراد متطوعون غير رسميين من المجتمع المدني، قد حلت محل الاحتساب سواء الفردي أو الجماعي غير الرسمي. وذلك كون مؤسسات المجتمع المدني معلنة ولديها تراخيص رسمية ومرتبطة بدوائر رسمية تتبادل معها المعلومات وتطوير الآليات والأداء في إيصال منافعها لمن يحتاج إليها. إذاً ففي ظل الحالة المدنية التي نعيشها، يجب أن يتطور أداء وآليات الاحتساب الرسمي والتطوعي ولا يترك للاجتهادات الشخصية والفئوية. حيث مؤسسات الدولة تقوم بتطبيق مفهوم الحسبة أفضل مما كان يدار به بالأمس ويعتبر جزءا كبيرا من مهماتها. كما أن مؤسسات المجتمع المدني تؤدي دور الاحتساب التطوعي بكل تحضر واحترافية. فلا بأس في أن يبقى جهاز الحسبة الرسمي كنوع من تدعيم مفهوم الحسبة، بشرط ألا يأتي على حسابها. ويجب بأن يحصر عمل التطوع الاحتسابي بمؤسسات المجتمع المدني لا غير.