لا أدري إلى أين وصلت ظاهرة الشتائم من حولنا، لأنني وجدت الكاتب المصري علي سالم في صحيفة «الشرق الأوسط» يكتب أيضاً عنها، من دون أن يحدّد أين وجدها في بريده الخاص أم في الشارع؟! لكنني تعلمت منه درساً جيداً، وهو أن الشتائم ليست مرضاً، بحده ذاته، بل هي أعراض لمرض يتمثل في قلة احترامك لذاتك، ويختصرها المثل الشعبي البسيط الذي يقول: «من يحترم الناس يحترم نفسه». ظاهرة علو وتيرة الشتائم في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي تعليقات القراء تحت المقالات في المواقع الإلكترونية ظاهرة لافتة للنظر. البعض يفسرها بأنهم مجرد أُجَراء وموظفون لدى بعض التيارات، وهم لا يقبضون ثمناً، لكنهم يحتسبون الأجر، وفق تربية هذا التيار الذي يعتبر عملهم جهاداً واحتساباً بغضّ النظر عن الوسيلة، لأن «الغاية تبرر الوسيلة»، وقد وجدت جملة في حسابي في «تويتر» تثني فيه واحدة على أحد الشتامين قائلة: «سيجيزك الله خيراً على شتم هذه الليبرالية». وفي أحد المواقع كانت التعليقات تحت حديث وزير تعليم سابق عبارة عن مباراة من الشتائم بحق هذا الوزير الذي لا يفهم ولا يرعوي الكافر الزنديق الرويبضة دون أن يشيروا إلى حجة الخلاف معه، ولو أشاروا لكان مجملها أنهم يرون غير ما يرى، ولم أجد أحداً في تعقيبه يستنكر هذه اللغة الهابطة والأخلاق المتدنية، بل إن كل شاتم يثني على شده الآخر ويدعو له بالثبات. هذا الضيق المتجلِّي في الردود والتعليقات والرغبة الشديدة في الانتقام والتشفي، وفي أخف صورها تحوُّل الشتائم إلى مشهد ضاحك نجح في إذلال الآخر، كلها هذه أعراض تشير إلى نفسيات تعاني، ولكنها لا تنجح في حل معاناتها، بل تحرث هذه المعاناة بمزيد من سحل الآخر وتصفيته شفهياً والتلذذ بقتله نظرياً. إنها تنتقم من ضعفها بركل كل ما يقف في وجهها، وبدلاً من أن يصبح الظلم الذي ذاقته رذيلة، يصبح فضيلة. هذه العقلية سيطرت عليها عقدة المؤامرة التي لا تجد في الآخر إلا عدواً يتوجب الانقضاض عليه حتى العقل يصبح عدواً والتبعية راحة وسلام. دعونا من حكاية لا يُرمَى إلا الشجر المثمر وأن الفلاسفة في العصور الوسطى رُجِموا بالحجر، فالطريق اليوم صار كله حجراً وشبه مسدود، كما أننا لم نعد في العصور الوسطى، بل نحن في عصر العولمة ومنظمات العالم المتحدة والقوانين والاتفاقيات الدولية ومكافحة الجرائم المعلوماتية، والأهم من كل هذا أن هذه الطاقات الشتامة ذهبت إلى مدارس حكومية تكلفت المليارات سنوياً، وضاع معها وقت وجهد، فأين حصيلة هذا كله؟ وزارة الشؤون الإسلامية صرحت بأنها أقامت 1.5مليون محاضرة دعوية وعظية خلال عام واحد فقط. هذا غير خطب الجمعة وغير نشاط الدعم الشخصي والتطوعي. فهل هذا شيء من نتاجها؟ عماذا تحدثت هذه العظات عن قتل المخالفين وتكفيرهم أم عن تكفين الموتى وعذاب القبر فأصبحنا نعرف كيف نموت، لكننا لم نعد نعرف كيف نعيش، تحولنا إلى مجتمع شتام في خطبنا وتصريحاتنا ومقالاتنا ووسائل تواصلنا الاجتماعي لا يقلق أحداً ولا يحرك ساكناً، فصرنا مثل ذلك البيت الشهير «كأننا والماء من حولنا/ قوم جلوس حولهم ماء» الذي قال شيئاً، لكنه لم يقل شيء، وصرنا كأننا والشتائم من حولنا قوم نيام حولهم شتائم.