يخطئ مَن يعتقد أن مصر يمكن أن تُحكم مجدّدًا بذات الطّرق التي حُكمت بها طوال العقود الخمسة الماضية.. البعض لا يزال يستشرف المستقبل منطلقًا من "عُقدة الماضي".. وهواجس دولة القمع وتراث البوليس السّياسي وسهرات التعذيب في مقارّ أمن الدولة، والعالم السّفليّ والسّريّ ل "ترزية" القوانين وأمراء تزوير إرادة الأمّة. أعلم أنّ "ميراث" القمع في مصر يمتد عبر عقود طويلة، وترك في المخيال الجمعيّ المصريّ، صورة مرعبة لمصير كلّ من يعفّ عن الخدمة تحت أحذية السّلطة. أعلم أنّ التّخلص من عقدة الماضي ليس يسيرًا، وربّما نحتاج إلى وقت طويل، حتى نستعيد هذا الوعي من ظلمات الخوف ونعيده إلى نور ما بعد الثّورة.. ربما يكون من المبكّر أن نحسن الظنّ في قدرة الرّئة العامّة، على استنشاق عبير الحريّة ونسمات الدّيموقراطيّة، وتشعر بمتعتها، وهي غير قادرة على الإقلاع عن عادة "تدخين" الخوف كلّما مرّت على مقرّ شرطة، حتى لو لم يتبّقَ منه إلاّ الأطلال وذكريات المعذّبين من المعتقلين محفورة على جدران الزّنازين المهدّمة. هذه العُقدة لا تزال عقبة بدرجة ما أمام المصريّين، وهم يكابدون مشقّة نقل السّلطة إلى حكومة مدنيّة منتخبة.. فالشّكوك تتزايد بشأن المستقبل، والنّظرة السّوداويّة لا تزال تقبض على وعي النّخبة ومقارباتها السّياسيّة في تحليل الواقع واستشراف المستقبل، حتى اسودّت الدّنيا فعلاً في وجوه المصريّين.. وكأنّ هناك من يريد أن يغلق أبواب الرّحمة في وجه الجميع. الحقيقة الغائبة، وسط هذا الصّخب والشّوشرة الإعلاميّة على كلّ ما هو جميل ومتوقّع في المستقبل القريب.. الحقيقة هي أنّ الدّنيا تغيّرت؛ فالبيئة الدوليّة والإقليميّة وتطوّر أدوات تدفّق المعلومات وتحوّل العالم كلّه إلى كيان من الزّجاج، أو كائن عارٍ لا يملك من أمره ما يستر عورته.. لم يترك هذا التحوّل الكبير في التّاريخ الإنسانيّ أيّة فرصة لعودة حركة التّاريخ إلى الوراء.. أو أن نُحكم بمنطق الخمسينيّات وستينيّات القرن الماضي. فالخوف من تجربة مصر السّياسيّة بعد حركة الجيش سنة 1952 خوفٌ مرضيّ، لا يستند إلى أيّ منطق موضوعيّ.. حتى لو كان المجلس العسكريّ طامعًا فعلاً في السّلطة.. فالأجواء الحاليّة بعد ثورة يناير، طاردة لأيّ قوّة أيًّا كانت منزلتها السّياسيّة أو المهنية تفكّر في العودة بالبلاد إلى ما قبل خلع الرئيس السّابق.. إلاّ إذا جاءت عبر التّراضي الشّعبي من خلال صناديق الاقتراع. مليونيّة يوم 25 يناير الماضي بمناسبة الذّكرى الأولى للثّورة كانت رسالة واضحة بأنّ مصر لن تُحكم مرة أخرى بذات الأدوات المتخلّفة التي خضعت لها سنوات "الجاهليّة السّياسيّة" الأولى.. مصر اليوم انتقلت من "ظلاميّة" مبارك إلى "تنوير" الثّورة.. وتؤسّس لقطيعة جذريّة مع هذا الماضي الكئيب والمخزي.