على ذمة بعض السياسيين في المعارضة اليمنية، أن الرئيس علي عبد الله صالح اعترف أخيرا بنفاد جميع محاولاته لفرض الحل الشرعي والدستوري الذي ينادي به، رفض صالح، وفاوض، وقاوم وقبل العديد من المبادرات السياسية، وتراجع عن بعضها، غير أن أمرا واحدا التزم به صالح والجميع بلا استثناء وهو عدم اللجوء إلى السلاح، انشق الجيش وحمل معه أسلحته الخفيفة والثقيلة وأخذ معه جنوده، غير أن أحدا لم يتحدث بالاحتكام للحل العسكري، ناور الرئيس كثيرا أخذ اليمنيين والدولة والجيش إلى حافة الهاوية فذهبوا معه إلى هناك، لكن لم تطلق قذيفة ولم يطلق النار وكانت الدولة صاحبة الحق الشرعي في استخدام القوة. في كل المبادرات كانت أمريكا حاضرة، كانت علاقاتها بصالح قوية لكن علاقاتها بالقبائل أقوى، وكانت تدير منذ فترة طويلة حوارات مع جميع رموز المعارضة اليمنية حتى بعد مغادرة صالح للعلاج، وللأمريكان إرهاصات مما يجري، فلا يستطيع الرئيس صالح أن يلاعب الأمريكان فهم أعرف بما يجري في اليمن، وأعرف بتناقضات سياساته وما زالت هناك اتفاقيات أمنية تسمح للاستخبارات الأمريكية بحرية التصرف في مناطق محددة من اليمن، لكن صالح أراد في السنوات الأخيرة من حكمه أن يعيد بناء توازناته بعد أن ضعفت توازناته التقليدية لصالح توازنات إقليمية أيضا وهي توازنات غير مباشرة سمح لبعضها بالتدخل والتوغل وإنشاء موطئ قدم لها في اليمن، فدخلت إيران عبر الحوثيين ودخلت إسرائيل بحجة دعم اليهود اليمنيين ودخلت سورية عبر بقايا الشيوعيين، ودخل تنظيم القاعدة، ودخلت قطر بدور دبلوماسي وفي النافذة الأخرى كانت تطل قناة "الجزيرة" على واقع يمني بائس فوضى وفقر وفساد وفسحة من الأمل. كانت توازنات علي صالح الجديدة تهدف إلى إنشاء تجمعات قوى على حساب القوى القبلية التقليدية، فسمح لمنظمات المجتمع المدني اليمنية أن تتمول من كل حدب وصوب، وأثرت هذه المنظمات وانتفخت جيوبها، غير أن العديد من نشطائها كانوا يعملون لصالح الرئيس وخدمته، فقد كانت تعمل تحت أنظار الرئيس وأجهزته الأمنية، وتدخلت منظمات NGOS العالمية بحجة تطوير اليمن ونقله إلى دولة القانون والمؤسسات والديمقراطية، وكان صالح يأمر محازيبه لاعتقالهم واختطافهم ومن ثم يتدخل لحل مشكلاتهم، وكانت هذه المنظمات تقدم معلوماتها أولا بأول لأجهزة الاستخبارات التابعة لها، وكان السفير الأمريكي جيرالد فايرستاين يعرف ما يجري في اليمن وفي أي نقطة في اليمن قبل الرئيس. اليمن حاضنة استراتيجية مهمة للخليج وقاعدة استراتيجية لأمنه القومي، واليمنيون على اختلاف مشاربهم السياسية، عروبيون لا يمكن اختراقهم، حتى فتح الرئيس بأمر منه أبواب اليمن فحضرت القاعدة وحضر القراصنة وحضرت إيران، ومولت تنظيمات وحركات، ووجد الرئيس في الحروب السبع الأخيرة فرصة تاريخية لجدولة زمنية للحكم، فباسم الظروف الداخلية نحا جانبا المطالب بالتغيير الديمقراطي، وباسم الحرب أطال أمد الحكم، وباسم الحرب أثار حفيظة دول الجوار اليمني وأشركها في أزماته، فعلى يمينكم القاعدة وعن شمالكم الحوثيون، واليمن مخترق ناحية إيران، وإيران مصدر تهديد للأمن الخليجي، فتدخلت قطر لحل الأزمة، والرئيس يرغب في استثمار الأزمات لا حلها طبعا، فانكشف الطابق، فتح النوافذ لتهريب السلاح والمخدرات لصعدة، وسمح بكل أشكال الفساد حتى ضج البنك الدولي، مؤكدا الفساد في اليمن مؤسسة كبيرة، وكادت صعدة أن تكون جنوب لبنان جديدا في خاصرة السعودية، دخلوا إليها عبر موانئ اليمن وعصب، ومع ذلك كانت الرياض ترى أن الاستقرار وشرعية الرئيس على هشاشتها أفضل من الفوضى، وكانت أمنية لقاعدة سياسية قديمة ترى في اليمنيين سندا وذخرا. وبحكم خبرته العسكرية والسياسية كان الرئيس اليمني يعمل بنظام الأخطبوط يترك طرفا ويمسك بطرف آخر، يشعل أزمة وينهي أخرى، له في كل مكان صديق وفي كل مكان عدو أيضا، فأشغل اليمنيين بأنفسهم، وأشغلهم بالمنطقة من كثرة الأزمات، وأشغل الجميع بنفسه، فأصبح هو اليمن وأصبح صالح على كل لسان، لم تسلم أمريكا وتل أبيب من اتهاماته حينما وجد أن المعارضة قد ضيقت عليه الخناق، كان يتهم ومن ثم يعتذر بسهولة دون أن يرف له جفن، لكنه حكم اليمن 33 عاما، وهي المهلة التي لم يبلغها رئيس غيره، جعلت في وقت سابق الشيخ عبد الله الأحمر يؤكد أن الرئيس إبراهيم الحمدي حكم اليمن ثلاث سنوات هي أطول من حكم الرئيس اليمني الذي حكم اليمن 30 عاما (هذا الحديث في عام 2008). كانت تصله المعلومات والتقارير الأمنية من جهات عديدة يمنية وخارجية، ولا أحد يستطيع أن يتنبأ أو يتكهن برأي الرئيس، كان يقرأ كل المعادلات ويختار التي تطيل عمر نظامه وتربك خصومه، غير أنه لم يلجأ للقتل العلني وتصفية الحسابات وجها لوجه لم يكن يعادي بل كان برغماتيا، وأحد الوزراء فر للسفير الأمريكي لعله يفهم سر صالح، لا أحد يعرف من هم رجاله، ولا أحد يعرف كيف يعرفه الرجال، لكن ثمة سر في هذه العلاقة، قال الوزير للسفير الأمريكي صالح لا يثق بأحد ولا يسمع من أحد إلا نفسه، فكان جواب السفير صالح يعرف ما يريد، ويعرف كيف يتخذ القرار، كان ذلك مداخلة أمريكية وشهادة اعتراف بقدرة الرئيس صالح، وحكمته ودهائه، وإن قاد أخيرا اليمن إلى بوابة الهاوية. غير أن دبلوماسيا آخر قال: خبرتي في اليمن هي بمرحلة حكم الرئيس، وأعرف اليمن كوني دارسا لتاريخ اليمن، فاليمنيون أشداء وصلاب ولهذا سكنوا المنازل الشوامخ ابتعادا عن السلطة، غير أن صالح حزم حقائبه وذهب بالسلطة إليهم، أشركهم فيها ليس حبا بالمشاركة وإنما لبلورة معادلة لا يقوى على فك طلاسمها غيره، غير أن معادلة واحدة كانت عصية على التفكيك وإنما على الاحتواء، وهي القبيلة، ففي السنوات الأخيرة، تراخت القبيلة في معادلة صالح، فأنشأ معادلة مجاورة ومنافسة لها، شق القبيلة وشق الأحزاب وترك الساحة كي يلعب الجميع تحت أنظاره وكأنه يحركها حيث يشاء، ويضيف الدبلوماسي: قلت في لقاء مع صالح كل التجارب السياسية تفيد بأن قلة من تلك التحالفات تصمد إلى ما لا نهاية، لا بد أن يعترض طريقها عارض، إلا المعادلات التاريخية، قلت له إن المتغيرات تفيد بأن الضددين قد يلتقيان في نقطة الموت والإفلاس، وعندها لا مجال لشحذ التوازنات الجديدة، فكل الأعمدة تتهاوى، ولكن صالح كان ماهرا، غير أن المتغير الوحيد الذي لم يفكر فيه صالح هو الخروج إلى الشارع، أحزاب وقبائل وجيش وسلاح وشباب وشيوخ وأطفال، والذي افتتحته ثورة تونس وثورة مصر، ولمصر واليمن علاقة روحية والقرين بالقرين يقتدي، وهنا لم يجد صالح بدا من القول إنها مؤامرة خارجية وأن هناك من يغذي هذه الاحتجاجات. خرج اليمنيون للشارع وقالوا كلمتهم، ارحل يا صالح، طرحت مبادرات والرئيس يناور، وانشق الجيش والأقربون ولا يزال الرئيس يقاوم، والناس يسألون: هناك شيء ما يطبخ على قدور هادئة والسفير الأمريكي بات من مطبخ القرار اليمني، فتوحدت الأضداد في لعبة عض الأصابع ومن يصمد لفترة أطول، وفي لعبة شد الأطراف لعل عمود التوازن هنا أو هناك ينهار، أو ينشق، ومع ذلك ظل صالح ممسكا باليمن وبالقرار، وظل لاعبا مهما في المعادلة اليمنية، يخرجون ضده بمظاهرات مليونية، فتخرج قبالتها مظاهرة مليونية تأييدا له، يلوح ببطاقة الخروج ويعلن عدم تصفيره للعداد ويعلن أنه سيعود من بوابة المعارضة، وسيخرج للشارع أيضا. المنطقة حبلى بالانفجارات والكل يحاول أن يبعدها عن نفسه، والكل يقول حوالينا لا علينا، وهناك من يحاول تخفيف الضغوط بمزيد من الانفجارات المدوية في نقاط حيوية واستراتيجية في المنطقة وفقا لقاعدة لست وحدي في العاصفة، فكانت اليمن بيئة خصبة للتفجير، وهناك من يتقصد الإساءة لأمن الخليج ولأمن السعودية، وهناك من يرغب في حرب أهلية ومستنقع تغوص فيه دول الخليج إلى الركب، وكنا على قناعة بأن الوضع في اليمن سينفجر، وأن جميع المشاركين الإقليميين يرغبون في انفجاره عاجلا في الجسم الخليجي وليس آجلا، وكنا نتوقع أن يتم العبث بأمن الخليج عبر اليمن. حادثة اغتيال علي عبد الله صالح ليست داخلية، فكل المؤشرات تؤكد أن أيدي خارجية تعبث باليمن، وأن أوامر خارجية تدفع بحرب أهلية في اليمن وأن الخلافات الداخلية على قوتها لم تصل إلى مستوى التصفيات الجسدية وهدم المساجد على رؤوس المصلين في مسجد النهدين، فالبعض يؤكد أن انقلابا قد حصل، ومعلومات تؤكد أن الشيخ الأحمر بالضد من التصفيات الجسدية، وأن استهداف الرئيس كان قبل الانفراج السياسي بخطوات، فعلي صالح أعلن قبوله أخيرا بالمبادرة الخليجية، لكن أطرافا خارجية ترغب في دوام الأزمة وتطورها واشتعالها، لم تمهل الرئيس ولا المبادرة الخليجية، فسارعت إلى محاولة اغتياله، ومحاولة الاغتيال تلك جاءت بعد أن أشرف الوضع الليبي على النهاية، وبعد تطورات الأزمة السورية وتطورات في الموقف الأمريكي والفرنسي والبريطاني والروسي حيالها، بما يشير إلى فقدان الرئاسة السورية للشرعية حسب كلام هيلاري كلينتون وآلان جوبيه ووليام هيج، وعقب مؤتمر للمعارضة السورية في تركيا ولجنة من 30 شخصا مكون قابل للتطور أيضا لأن يصبح مجلسا وطنيا، وربما يتطور الموقف أكثر بعد انتهاء الانتخابات التركية، وبعد أزمة حادة تعصف بإيران من الداخل وهواجس تنتاب حزب الله من حدوث ما لا يحمد عقباه في سورية، ومصر مشغولة في أمرها الداخلي وإسرائيل تراقب التطورات وفواعلها، وقرارات يسمح بموجبها مجلس الشورى السعودي بمشاركة المرأة في الانتخابات البلدية وفي العمل، وحديث رجال دين بعدم وجود حرمة شرعية لقيادة المرأة للسيارة، والحديث عن عادات وتقاليد، وهيئة لمكافحة الفساد، وتوزيع للمكتسبات التنموية تطول الجميع، وابتعاث علمي وتعلمي خارجي في أكبر خطة ابتعاث على مستوى العالم، وقائد يؤكد لشعبه "أنا خادمكم ولا أنام حتى أسمع من أمراء المناطق عن أمنكم واستقراركم"، وسياسة تمتاز بالحكمة والعقلانية وضبط النفس في زمن الانفعال وغياب الرشد السياسي، ومجلس تعاون يفاجئ الجميع بوحدته الداخلية ووحدة قراره السيادي، وقرارات منظورة حول تطوير درع الجزيرة ووكالة متطورة للاستخبارات، وقوة تدخل سريع. من المستفيد إذا من أزمة اليمن، ومن الساعي لتفجير اليمن، ولماذا استجاب عقلاء اليمن لنداء العقل وصمت السلاح وضبط الأمن وحافظوا على الأمن والاستقرار، فقد كانت مكالمة خادم الحرمين الشريفين مع عبد ربه منصور هادي نائب رئيس الجمهورية اليمني ومع الشيخ صادق الأحمر في توقيتها، ولخادم الحرمين الشريفين مكانة يحترمها الجميع في اليمن، لأنه يهدف إلى خير اليمن وأمنه واستقراره وازدهاره، لا كما تتحدث الأبواق الخارجية بأن ما جرى للرئيس كان بترتيبات خليجية أمريكية، وهناك تفهم يمني داخلي بضرورة الحفاظ على الأمن والاستقرار وعدم الانزلاق للحرب الأهلية، وهذا ما رغب نائب الرئيس اليمني إشاعته وقوله والتأكيد عليه: إن اليمن يمر اليوم بمنعطف خطير وهو ما يفرض على القوى السياسية في السلطة والمعارضة ومنظمات المجتمع المدني والفعاليات القبلية والاجتماعية بمختلف توجهاتها تحمل مسؤولياتهم الوطنية من أجل توحيد الصف والجهد في سبيل تأمين وتوفير الخدمات الأساسية واستعادة ثقة الناس وتهدئة الخواطر والاحتقانات، وأن حاملات نفط ستصل في غضون 24 ساعة إلى مصافي عدن من السعودية حمولتها ثلاثة ملايين برميل وسيتم ضخ 100 ألف برميل يوميا وتوزيع المشتقات النفطية من على جميع المحافظات اليمنية وبصورة سريعة. وعليه فإن المستفيد من أزمات اليمن هم من يشعلون النار في أمن واستقرار المنطقة، هم من يدعون احترام العهود والمواثيق والجيرة، ويعملون خلافها، وهم من يحاول النيل من وحدتنا الوطنية وأمننا الوطني، وهذا يطرح سؤالا موازيا أيضا: ما الدول الراغبة في استقرار اليمن والحفاظ على وحدته وعدم التدخل في شؤونه واحترام إرادة شعبه؟ ما الدول التي سارعت وبادرت وتحملت الصعاب لالتئام الجرح اليمني العزيز، من الذي التقى الرئيس والمعارضة وأكد منذ البداية وقوفه على مسافة واحدة من الجميع؟