نجيب الزامل - الاقتصادية السعودية .. كنت، وغيري، دوما نتساءل هل التفاؤل طبيعة بشرية؟ أم أن التفاؤلَ اكتسابٌ من الظروف المحيطة والمعلومات المدرجة للإجراء في تلافيفِ الدماغ؟ وكان السؤالُ الأهم هل البشر يميلون بطبيعتهم إلى التفاؤل أم إلى التشاؤم؟ وإني أؤمن إيمانا ثابتا بأن التفاؤلَ هو الذي تميل إليه البشرية بطبعها، وأكتب ذلك باستمرار، وأقوله مهما ادلهمت الخطوب، وزادت عتمةُ الظلام والإظلام.. لم يكن إيماني فقط مسألةً تأمليةً انقطاعية تصوفية، بل كانت جدلية عقلية منطقية، فيما أزعم على الأقل، لأني كنت من واقع علم "الأنثربولوجيا" وسلوك الإنسان عبر الظرف الموضوع أصل لنتيجة حاسمة بأن الإنسانَ لو لم يتفاءل لما خرج من الكهف حتى الآن. إنّ إقدام الإنسان على المخاطرة والمغامرة وكشف المجهول إنما هو أصل تفاؤلي رُكِّبَ في خلق الإنسان وصفاته، وإلا لما أقدم خطوة واحدة إلى مصيرٍ لا يراه، وقدرٍ لا يمكنه التنبؤ به. عندما جاء الشيخ "سليمان الراجحي" بدعوةٍ من شباب أعمال غرفة الرياض ليخبرهم عن تجربته، غصت القاعة وفاضتْ، ولا أرى ذلك إلا ميلاً عفوياً وغريزياً تفاؤلياً لدى من تزاحموا في القاعة، الكل يأمل أن يستفيد من التجربة، وأن يكون راجحياً آخر. لأن العقلَ عبر "فصِّه القبلَ جبهوي" يرصّ هذه المعلومات لتغذي فصا صغيرا في الدماغ على شكل اللوزة يعتني بفصل نوعية المعلومة ليوظفها شعورا أو قرارا أو اعتقادا أو سلوكا عبر الفصّ الجبهوي الأمامي المختص بالقرارات الواعية في الدماغ. إذن فإن الخالقَ العظيم قد وظف الجهازَ الدماغي العصبي والكيميائي ليوجه الإنسانَ عبر كتلته العصبية إلى التفاؤل. هذا الآن ليس اعتقاداً شخصياً من عندي أو من عند غيري.. بل حُسِم الأمرُ، وصار مثبتاً علميا. في عدد السادس من يونيو الجاري في مجلة "التايم" الأمريكية الدولية كان موضوع غلاف مختلف وبهيج.. إنه رسم أولي توضيحي لغرف التفكير في الدماغ البشري، أما العنوان: "علم التفاؤل" نعم، التفاؤل صار علما، بل من أرقى العلوم التشريحية الفسيولوجية، أصبح معمليا مراقبا ومثبتا بالمختبرات والملاحظة العلمية والمقارنة وشواهد الإثبات العلمية التي لا تحتمل جدلاً، علميا تطبيقيا على الأقل. بل إن "التايم" تضع عنوانا إردافياً على الغلاف وتقول، وهو صحيح: "التفاؤل ليس تفكيرا علميا منطقيا ملموسا.. ولكن لماذا الدماغ البشري مترابط بأسلاك توجهه للتفاؤل؟" سؤال يستحق الإجابة، بل استحقّ الطرحَ قبل ذلك. عزمَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - على القيام بدعوته العظيمة رغم كل المعوقات الهائلة لأنّ اللهَ جعل دماغَه الكريم مربوطا عصبيا بالتفاؤل لتبزغ العزيمةُ والإصرار، لو كان في عقل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذرة تشاؤمٍ لما أقدم على عمل من أعظم وأجسر الأعمال في كل التاريخ. ومن تبع الرسول الكريم من صحابته خصوصا في أول الدعوة إنما لأن الذي يدفعهم ما يجري من إشاراتٍ دماغية مفطورة للميل للتفاؤل.. وترى هنا حاجتنا البشرية الأساسية للتفاؤل حتى وإن لم نعترف به ولم نقره بألسنتنا أو بأي وسيلة للتعبير.. وهنا إجابة للتساؤل: كيف يتفاءل الإنسانُ وهو يرى الأمراضَ السارية، والكوارث والحروب والثورات والظلم والقهر في كل مكان.. والإجابة: التفاؤل. التفاؤلُ بأن شيئا أفضل سيحصل، وأن وراء الغبار والدم والمعاناة شمساً تشرق من جديد، وأسأل كيف نهضت البشرية بعد حروبٍ كونية، وأسأل أهل "نيبون".. اليابان، بلاد الشمس المشرقة، بعد أن انفلقت الأرضُ مثل مشاهد الآخرة. وطبعا لم يغفل علماءُ "النيورولوجي" وهم مختصو أعصاب المخ، هذا التساؤل: كيف يتعلق الإنسان بوهمٍ ورديٍّ وكل شيءٍ حقيقي وواقعي يلح عليه بعكس ذلك؟ بل إن أكبر المتشائمين حتى لو صرخ ليل نهار بالتشاؤم ديدنا وعقيدة إلا أن عقله موجهٌ كهربائياً وعصبياً وكيميائياً نحو التفاؤل، وإلاّ لِمَ الاستمرار في بقية اليوم؟ وراقب العلماءُ بمسحٍ للدماغ البشري وهو يتسلم معلوماتٍ كثيرة إيجابية وسلبية، وكانت النتيجة صاعقة ومدهشة: كل الخلويات العصبية تعمل بجديةٍ وإخلاص لتكرّس وضوحا وتنبيها أكثر إلى المعلومات الإيجابية، بينما تتعمد نثر ستائرَ ضبابيةً على المعلومات السلبية.. طيب، يبقى لغز؟ ما دام العقلُ يميل غريزياً للتفاؤل، فكيف يمكن لإنسانٍ النجاة من ظروف وتحديات الحياة وخصوصا أننا نعرف أن التفاؤلَ أقرب للوهم من الاستنتاج العقلي المسبَّب؟ يقول لنا العلماء: "بالضبط. لذا يدفع التفاؤلُ إلى سلاحٍ منطقي خطير لتحقيق الوهم أو الحلم التفاؤلي، هذا السلاح هو: المعرفة". لذا خرج الشبابُ من محاضرة تجربة الشيخ "الراجحي" من الصفر ليكون أكبر عقلية مالية في الشرق الأوسط، مليئين بتفاؤلٍ داخلي أن كل واحدٍ منهم يستطيع أن يكون راجحياً آخر. لذا أرى أن برنامج دعوات كبار رجال الأعمال تكريسٌ لمفهومٍ غريزيٍّ مثمرٍ لإيقاد شعلة الإرادة بدافع وقود التفاؤل. والتفاؤلُ هو الذي يجعلني أصدق.. أن مقالي سيُقرأ!