عبد الوهاب الفايز - الاقتصادية السعودية قد يبدو غريبا ويدعو للتأمل والرغبة في التحليل العميق الذي يتجاوز النظرة السطحية للأحداث هو الوضع الذي ستكون عليه الدول في هذا القرن، فنحن نشاهد الدول القائمة والتي نعتقد بشكل جازم أن لها سلطة وإرادة وقدرة تشكل هوية الدولة وتؤسس لهيبتها، وأيضا لها بنية اقتصادية ومؤشرات نمو وأسواق مال رابحة ومشروعات منتجة.. فجأة الدولة تتداعى وتختفي وتظهر دولة بهوية جديدة وطموح جديد.. أي السؤال باختصار هو: هل نحن إزاء حقبة جديدة لذوبان الدولة وسرعة تبدلها؟ لا شك أن القرن ال 21 يحمل مؤشرات رئيسية على أهمية وكبر التحديات التي ستواجهها الحكومات، فالبشرية دخلت القرن ال 21 بأدوات وآليات جديدة، وكذلك ورثت نظما سياسية واجتماعية واقتصادية نمت في أرضية وبيئة مختلفتين، لذا الدول في القرن الجديد تتعرض لظروف جديدة قد تؤثر في نموها العضوي .. فهل التحول إلى المناخ والبيئة الجديدة يحمل معه ظروف فناء الدولة، أم أن الدولة بمكوناتها العضوية والموروثة قادرة على الصمود والاستمرار؟ الحكومات في القرن الجديد ستكون مهمتها لإدارة شعوبها صعبة ومكلفة في الدول الكبرى والمستقرة في مؤسساتها، أما المهمة فستكون أكبر وأصعب في الدول الفقيرة أو المتوسطة النمو، التي لديها الحد الأدنى الضروري لمقومات الدولة، أي أن الإدارة الحكومية يجب أن تكون أكثر كفاءة وفاعلية في إدارة الدولة، بالذات إدارة الثروة وكفاءة توزيعها بالشكل العادل، الذي يؤدي إلى الاستقرار وعدم الاعتداء على المصالح العليا للدولة وللناس. أبرز التحديات للحكومات هو كيفية (إدارة تطلعات الناس) إلى حياة أفضل، وتعريف الحياة الأفضل يختلف بين المجتمعات، ففي المتقدمة تعني منتجات استهلاكية جديدة وفرصا وظيفية أوسع، ومزيدا من الوقت للتنمية والتسلية والمتعة، وهذه تتجاوز الاحتياجات الأساسية للإنسان، وبعض الدول المتقدمة كانت ممسكة بزمام تقديم الاحتياجات الأساسية في السكن والتعليم والصحة والأمن والنقل، إلا أن الإيمان المطلق بقوة السوق الذي انجرفت خلفه أغلب الدول المتقدمة منذ مطلع الثمانينيات وقادته أمريكا عبر المؤسسات الدولية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد، هذا الانجراف أدى إلى تراجع دور الدولة في تقديم الرعاية الاجتماعية وخدمات الصحة والتعليم، وتحرير الاقتصاد والأسواق، وبالتالي اتساع دائرة العوز الاجتماعي والبطالة، ونحن الآن نشاهد مظاهر الاحتجاج والاضطراب في عدد من الدول المتقدمة، والأحزاب اليمينية المتطرفة تنمو في الشارع. أما ثورة التطلعات في الدول الفقيرة ومتوسطة التقدم فالمتوقع أن تتعزز مع توسع وسائل الاتصال وتطور قنواتها التي أدت إلى سرعة تداول المحتوى بأنواعه، والعالم الآن يعيش تقريبا حالة نفسية واجتماعية واحدة إزاء الأحداث التي تجري في العالم، سواء في حالات الكوارث الطبيعية أو النزاعات المسلحة أو في حال الاضطرابات، أو حتى في الاحتفالات بالمنجزات الوطنية، فالشعوب أصبحت تعرض تجربتها وأسلوب حياتها بشكل مباشر ودون وسائط مرشِّحة أو مانعة، وهذا يعني التقليل التدريجي من دور قادة الرأي الذين يتولون توجيه وتعميق الفهم لدى الجماهير المتلقية للمعلومات .. لقد أوجدت البيئة التقنية الرقمية الجديدة (مسرحا افتراضيا) مفتوحا للتفاعل الاجتماعي المؤثر في البيئة النفسية والفكرية للناس. وثورة التطلعات سوف تطرح تحديا لكل المجتمعات الديمقراطية وغير الديمقراطية، فنحن نشهد تراجع الأطر التقليدية المعروفة لوضع أجندة النقاش الاجتماعي للناس، بحيث يتم بشكل غير مباشر توجيههم إلى السلوك الذي ترغبه الحكومات والقوى السياسية، وهذا له تطبيقاته السلبية وقت الأزمات التي تتطلب صناعة إجماع وطني، وله سلبياته أيضا لأنه يتيح للجهود المنظمة اختراق الأمن الوطني. من التحديات أمام الحكومات التي تتطلب الكفاءة القيادية ما يتعلق بكيفية الموازنة بين مخرجات النمو الرأسمالي وضرورات الرعاية الاجتماعية ومتطلبات الاستقرار السياسي، فالرأسمالية ذهبت بعيدا في تحويل الناس من قوة دافعة للإنتاج إلى قوة مندفعة للاستهلاك، وقد ترسخت عقيدة مقدسة وهي ضرورة الاستهلاك لإدامة الإنتاج وتعظيم النمو.. وبالتالي تحريك الاقتصاد، وهذه الحالة أوجدت ضغوطا متزايدة على الموارد الطبيعية، وموارد الدولة، وموارد الأسرة وغيرها..، وهذه (الذهنية التوسعية) تشكل معضلة للدولة الحديثة، ملخصها: كيف تضمن إدامة النمو الاقتصادي وفي الوقت نفسه تتيح الفرصة للمشروعات الفردية أن تأخذ حريتها في الإبداع والتطور والنمو التراكمي، كيف يتحقق ذلك بدون الاعتداء على ضرورات الرفاه الاجتماعي وضمان المقومات الأساسية للحياة الكريمة. هذه تضاف إلى تحدي النمو السكاني .. فالدول المتقدمة تواجه تراجعا في عدد السكان وارتفاعا في الشريحة العمرية الكبيرة، وهذه الشريحة تحتاج إلى خدمات رعاية مكلفة، ولأنها متقاعدة عن العمل فهي إذن لا تساهم في تغذية موارد الدولة، وهذا تحد مهم، وهذا التراجع السكاني يقابله في الدول النامية ارتفاع معدلات النمو السكاني الذي تتسع فيه الشريحة العمرية الصغيرة. ومع تطور النظم والتشريعات التي تخدم وتحمي الصغار، تحول الأطفال عن دورهم في المجتمعات التقليدية، فقد كانوا مصدر إنتاج للأسرة .. الآن تحولوا إلى مصدر تكلفة على الأسرة والمجتمع، وفي الدول النامية مشكلة هذه الشريحة أنها تعيش في ظل ثورة المعلومات والاتصالات التي تقود إلى ثورة في التطلعات، وبقدر ما تتوسع الدولة في سقفها السياسي فإنها تتيح الفرصة لهذه التطلعات لأن تنمو.. وهنا المعضلة للدولة.. وأيضا التحدي لها. المعضلة عندما لا تعرف إلى أي مدى سوف تبلغ هذه التطلعات، ومن سوف يغذيها ويقودها، أما التحدي فهو أن تمسك بزمام الأمور لتقود التطلعات إلى مصلحة هذه الأجيال الواعدة وإلى مصلحة الدولة العليا. نحن إزاء تحديات رئيسية قد تجعلنا إزاء ظاهرة تتابع الدول وموتها وقيامها في صورة لم نعهدها من قبل .. فالدولة تموت في ظل الدولة!