كل قارئ يشاهد أفلاماً أميركية لا بد أن سمع يوماً شرطياً في فيلم بوليسي يقول للمتهم: لك الحق في أن تبقى صامتاً. أي شيء تقوله يمكن أن يستخدم ضدَّك في المحكمة. لك الحق أن توكّل محامياً (يدافع عنك). وإذا لم تملك أجر محام، فسيعيَّن محام لك. هل تفهم هذه الحقوق كما قُرئت لك؟ ما سبق اسمه القانوني «تحذير ميراندا»، أو «حقوق ميراندا»، ويعود الى قرار للمحكمة العليا سنة 1966 في قضية عرفت باسم «ميراندا ضد أريزونا»، فقد كان ارنستو ارتورو ميراندا متهماً بالاغتصاب والخطف، وهو شكا من أن حقوقه بحسب التعديلين الخامس والسادس للدستور انتُهكت لأن الشرطة لم تقل له ما هي هذه الحقوق بعد اعتقاله. ووقفت المحكمة العليا الى جانبه، وأُعيدت محاكمته، والتهمة ثبتت عليه في المحاكمة الثانية وحكم عليه بالسجن بين 20 سنة و30 سنة. التحذير الذي بدأت به قد يختلف نصه من ولاية الى أخرى، طالما أن المعنى واحد، وهو موجود في شكل أو في آخر في بلدان كثيرة أخرى لا أعتقد أن الدول العربية بينها. وقد عاد بقوة بعد أن شكا كثيرون من المعتقلين في غوانتانامو من أن حقوقهم القانونية انتهكت خلال التحقيق معهم. حتى أشهر معدودات كان ما سبق هو ما أعرف عن تحذير ميراندا أو حقوقه، ثم بدأت أسمع عن «عقدة ميراندا» وفي البداية لم افهم كيف تحولت الحقوق الى عقدة، إلا أنني ربطت ذلك بتجاوز إدارة بوش الأعراف القانونية في هروبها وفي تعاملها مع المعتقلين. غير أن البحث وأخباراً وتحقيقات في الصحف الأميركية والبريطانية التي أقرأ كل يوم جعلتني أفهم أن الحقوق غير العقدة، وقد شرحت الأولى، أما الثانية فهي تتحدث عن ميراندا في مسلسل (وفيلمي) «الجنس والمدينة» حيث تخفي إحدى النساء الأربع من لاعبات الأدوار الرئيسة حجم دخلها كمحامية بارزة حتى لا يهرب منها صديقها «الصايع». (تلعب دور ميراندا الممثلة سنثيا نيكسون التي وقّعت رسالة لفنانين يقاطعون إسرائيل). وهكذا فقد قرأت أن الذكور الأميركيين معقّدون، والواحد منهم يضيق بامرأة ناجحة دخلها أعلى كثيراً من دخله، لذلك فالأميركيات اللواتي يشغلن وظائف عليا ويحققن دخلاً هائلاً يكتمن نجاحهن حتى لا ينفر منهن الرجال ويخسرن فرصة الزواج. إذا كان الأميركي معقداً من نجاح المرأة، فما هو موقف العربي الذي لا يريد لزوجته أن تعمل حتى وهو عاطل من العمل؟ أحكي للقارئ قصة واحدة عن امرأة في عاصمة عربية تشغل وظيفة عالية في بنك أجنبي، وزوجها يعمل في وظيفة حكومية دخله منها أقل من ربع دخل زوجته، ومع ذلك فهما على خلاف مستمر لأنه يريد منها أن تتوقف عن العمل وتتفرغ «للبيت». وقد حاولتُ مرة أن أتوسط بينهما بناء على طلبها وسمعتها تقول إن ولديهما في مدارس خاصة وشقتهما الكبيرة عليها أقساط شهرية عالية، ودخل الزوج يكاد لا يكفي لإطعام العائلة، ومع ذلك أصر الأستاذ على موقفه لأن عمل زوجته يعني أنه «مقصِّر» إزاء أسرته. عندي عقد كثيرة ولكن «عقدة ميراندا» ليست بينها، وأرحب بأن تعمل زوجتي بشهادتها الجامعية التي لم تستعملها يوماً، كما أرحب بأن يكون دخلها أضعاف دخلي، بل أعد بأن أساعدها على إنفاقه إذا أتيحت لي فرصة. ثمة دراسات أميركية تظهر أن دخل الأميركية وهي في العشرينات أعلى من دخل الأميركي في مثل سنّها، ثم يتراجع دخل المرأة في الثلاثينات بعد أن تتزوج وتقدم أسرتها على عملها. بكلام آخر، ما على الأميركي سوى أن ينتظر، وسيزيد دخله على دخل صديقته أو شريكة العمر في المستقبل. كنت أعتقد أن مقياس نجاح الرجل هو أن يكون دخله أعلى مما تنفق زوجته، وأن مقياس نجاح المرأة أن تجد زوجاً من هذا النوع. والآن أسمع عن «عقدة ميراندا» أو عن رجل لا يريد لزوجته أن تعمل مع أنها إذا لم تجد ما يشغلها فستشتغل بالزوج الغيور. شخصياً، أحب العمل لي ولكل امرأة، ولا أجد سبباً لأجعله حكراً على الرجال، فهو لا يستحق سمعته، وأجده يشغل حيزاً كبيراً من وقتي الذي أفضل أن يكون في أشياء غير العمل مثل لعب الشدّة. غير أنني لا أشكو، فالعمل ضروري للحصول على فلوس، ويقولون إن الفلوس تتكلم إلا أن تجربتي معها انها تهمس حتى أكاد لا أسمع صوتها، ناهيك عن أن أراها. وعلى الأقل الخوف من أن يملكني المال بدل أن أملكه ليس قائماً عندي. في النهاية «عقدة ميراندا» هي مركّب نقص، إلا أنني أفضل هذه العقدة على حقوق ميراندا التي تعني أن أكون متهماً في أميركا هذه الأيام، أي أن أكون، ككل عربي ومسلم، مذنباً الى أن تثبت براءتي، لا العكس. والزوج الناجح في كتابي الشخصي ليس الذي يزيد دخله على دخل زوجته، أو الذي يرفض أن تعمل، بل هو الذي تقف خلفه زوجة في يدها حزمة فواتير هو قادر على دفعها.