في رمضان، يتكرر معنا حدث ثابت كل عام.. إنه حالة البين بين. العمل بين بين. الدوام بين بين. المزاج بين بين. كل شيء يقف على هذا البين حتى تقرأه في العينين الزائغتين لكل من تراه، كما لو كان طفلا تائها. الأعمال تنجز حتى منتصفها، والموظفون يعملون بنصف طاقتهم، ومن له معاملة هنا أو هناك لا يعرف إن كان عليه مواصلة جهاده اليومي في متابعة معاملته أو يستسلم لقدر الصائمين. الجميع فرح برمضان، ويكدرهم عمله في الوقت ذاته. سعداء هم به ومهمومون بنهاراته الطويلة. حتى بعد الإفطار تنتصر التخمة على ما تبقى من طاقة اليوم، فلا نحن بالنيام ولا بالمستيقظين، لا نحن بالنشطاء ولا بالكسولين. وفي كل لحظة يداخلك الإحساس ذاته أن الناس تسير نائمة، أو تنام وهي تسير. هذا الوضع يدفع بكل شيء إلى أقصى حدود «التنبلة». ليس في الجهد الجسدي وحده بل الفكري أيضا. فأنت ستجد الموظف في مكتبه والعامل في مصنعه والبائع في متجره، حيث أعظم إنجاز لهم هو نصف إنجاز. فوقفتهم بالكاد تستقيم، وجلستهم بالكاد تستوي، والويل لمن يقتحم حالة البين بين التي هم فيها. ما السبب؟ إنه خطأ قديم ارتكبناه ومن الواجب تصحيحه. هذا الخطأ هو إيحاؤنا لأنفسنا بأن رمضان شهر يختلف عن باقي الشهور. تعلمنا أنه للعبادة الخالصة. وأضفنا من عندنا أنه للعمل الصادق. ثم خلطنا هذا بذاك، بعد حين ما عدنا مخلصين لهذا أو ذاك. ورويدا رويدا حارب شيء فينا الزمن واحتال على الوقت، فجعل من عمل الثماني ساعات مجرد ست ساعات مهزومة. وبدلا من دوام الصباحات الباكرة سيبدأ اليوم مع الضحى. وبدلا من أن تهجع النفوس في الليل ستصبح منهكة بالسهر كما لو هي تقتص من النهار طوله. لقد غاب عنا أن رمضان لا يختلف في شيء عن باقي الشهور. ولا يشير كتاب تاريخ واحد، أو أية قصة من تراثنا الطويل العريض إلى أن رمضان كان أقصر في ساعات عمله، أو أطول في ساعات لهوه. بل إن الحروب الإسلامية والفتوحات الكبرى كانت تتم في رمضان في عز الرمضاء وذروة قسوة الطبيعة على الإنسان. لكن الحروب أصبحت مجرد مسلسلات، وكتب التاريخ شيء من حكايا، وأيامنا الرمضانية نصف من هذا وذاك. حالة البين بين هذه يجب أن تحسم، فإما أن يصبح رمضان كله إجازة من صبحه حتى ليله أو يكون عملا كسائر الأيام. فنحن نعيش البين بين في كل ما حولنا على مدار العام، وبدلا من أن يكون هذا الشهر الفضيل رمزا لتوازننا بين عبادة وعمل إذا بنا نجعله بين بين، فلا العمل ينجز كما نريد ولا العبادة تؤدى كما ينبغي.