أحمد عبدالرحمن العرفج - المدينة السعودية أشياءٌ كَثيرة تُضحك في المَشهد الثَّقافي المَحلي، ولكن مِن أبرز مَا يبعث على السّخرية ويُحفِّز الضَّحكات المُثيرة، ما تَسمع مِن أكثر الكُتَّاب والمُثقَّفين بالتَّهديد برَفع قَضايا ضد بَعضهم.. تَصوّروا، مَا أن يَختلف اثنَان حتَّى يُهدِّد أحدهما برَفع قضيّة، أو مُقاضاة الطَّرف الآخر.. يَقولون ذَلك وبسهولة، وكأنَّ الأمور تَبدو أنَّ القُضاة والمَحاكم قَابعون في مَكاتبهم، يَنتظرون هَذا الكَاتِب النَّبيل، أو ذَلكم المُثقَّف الجَميل يَأتي ليَرفع قَضيّة، وبَعدها يَصدر له الحُكم في اليوم التَّالي..! يا لسَخافة العقول.. كيف يَتصوّر الكُتَّاب أنَّ المَحاكم بهذه «الفَضاوة» و«قِلّة الأشغَال»، بحيثُ يُشهرون تَهديداتهم في وجوه كُلّ مَن يُخالفهم..؟! ألا يَعلم هَؤلاء أن لَدى المَحاكم ما يَكفيها مِن أعمال وقَضايا، ممَّا يَجعل قُضاة هذه المَحاكم لا يَنظرون في بَعض القَضايا إلَّا بَعد سنين وسنين..؟! ألا يَعلم هَؤلاء –أيضاً- أنَّ في أروقة المَحاكم صكوكاً صَادرة ومميّزة؛ مَكثَت فيها عَاجزة عن المضي في حَقل التَّطبيق..؟! وبصَراحة حَمراء، كان القَلم يَظنُّ أنّ مَشاكل المَحاكم، وتَداعيات القَضاء لم تَكن مَوجودة، إلَّا في أيّام النّاس هذه، ولكن، اكتشف الحبر أنّ المُشكلة ظَهرت مُنذ مِئات السّنين، وإن كَانت ذَاكرة التّاريخ تُشير إلى اشتعال نَارها في بدايات القَرن التّاسع عَشر..! في كِتاب «رفات عَقل» للأستاذ الرّائد «حَمزة شحاتة»، إشَارات وتَوقيعات وهَمزات، تُشير إلى تَردّي الأحوَال، خَاصّة عندما تُلقى «المُخلّفات» و«المَساوئ» عَلى الشّيطان.. ليَبقى الشّيطان بهَذا المَفهوم؛ أقرب «المشاجب» لإراحة النّفس مِن شَطط المُحاسبة، حين يَضيق قميص «الخَطيئة» فيها عَن قَامة «تَحمُّل» تَبعات المسؤوليّة، فَضلاً عَن عَدم القُدرة على الإمساك بهَذا الشّيطان، ومُحاسبته بجريرة التّحفيز والتَّحريض لاقتراف الخطيئة، وإنّما تُنهى المَسألة –غالباً- عند هَذا الحَد باستغفارٍ «مُريح» للأعصاب، و«مُهدِّئ» للخَواطر، و«مُخدِّر» لنَاشط المَشاكل.. لهذا يَقول «حمزة شحاتة»: (خَارج المحكمة، لا أنا ولا أنت المَسؤولان عَن أخطائنا.. بل الشّيطان)..! والوصول إلى المَحكمة أمرٌ جيّد، ما دَام المَقصد «العَدل»، والمَبحوث عَنه «القسطاس»، بيد أنَّ ذلك -في الغَالب- لا يَتحقَّق إلَّا بَعد جَولات مَاراثونيّة، ورَكض بين الرّدهات، واستطالة الجَلسات، ومَا بين ذَلك مِن المَلَل والعلّات، وفي هَذا يَقول «حمزة شحاتة»: (طول التّقاضي في المَحاكم هو الذي أغرَى بابتزاز الحقوق وابتلاعها)..! ليتَ القَارئ الكريم، والرّقيب الحَميم، والمُتابع الصّميم، يُلاحظ أنَّ هَذه التّواقيع لأديبنا «حمزة شحاتة» كُتِبت قَبل نصف قَرن، الأمر الذي يَجعل القَلم في مَأمن مِن إساءة الظَّنّ، وخُبث القَصد، ولعانة السّبيل..! هذه تواقيع لمّاحة، وإشارات برقية ملحاحة، دفقها الرّائد «حمزة شحاتة».. دفقها وهو يَعرف ثمن قَولها، ومقدار مَجالها، مِن خلال رَغبة صَادقة في تَحسين الأحوال، وتبدّل الأشكال، لأنّ الأمر إذا فَسد، والقَضاء إذا قَعد، فإنّ العَاقبة وَخيمة على البَشر والبَلد..! وليَحذر القَارئ الكريم مِن مَقولة «حمزة شحاتة»، عندما صرخ متألّمًا: (لكلٍّ منّا طَريقته في تَحقيق العَدَالة.. حتّى اللّص)! وليَكن أكثر حَذرًا مِن ذَلك الأكاديمي؛ الذي ما فتئ يَنظر إلى الفعل الإنساني خارج أُطر التّأثيم والتّجريم، دَاخل مَفهوم النّشاط الاجتماعي المُرتبط بدَوافعه، والمتّصل بما قَبله وما بَعده مِن عَوامل، لذلك لم يَجد «للسّرقة» مِن تَعريف سوى أنّها: (مُجرّد وَسيلة مِن وَسائل الإنسان «البدائيّة» لتَقسيم الثّروة)..! حَسناً.. مَاذا بَقي..؟! بَقي أن أقول: ليتَ قَومي يَعلمون أنَّ التَّهديد بالمُقاضاة «موضة جَديدة»، وكأنَّ النَّاس اكتشفوا فَجأة أنَّ هناك قَوانين، وبجوارها مَحاكم، فأخذوا يَذهبون إليها ليلاً ونهاراً..! يا قَوم.. على رِسْلِكم، فالمَحاكم لديها ما يَكفيها.. والمَشغول لا يُشغل -كما تَقول العَرب- فتدبَّروا ذَلكم بَارك الله فيكم، مَع التَّأكيد أنَّ مِن حَق الجَميع أن يَذهب إلى المَحكمة، ويَرفع القَضايا في شتَّى الأمور، بدءاً بمُقاضاة الصُّحف الإلكترونيّة، وانتهاءً بكُتَّاب الأعمدة والزَّوايا..!.