المتدينون كغيرهم يصيبهم النقص، ويعتريهم الخطأ، وقد تقصر آراؤهم عن الإدراك والفهم لبعض القضايا. ولأن النظرة لهم أكبر، والخطأ منهم أخطر، خاصة ما كان منها إلى الجهل أقرب، أو إلى التشدد أظهر، فإننا بحاجة إلى معالجة تتسم بالوضوح والبرهان. ومن الدلالات الخاطئة الناشئة عن قصور، فهم لدى بعض المتدينين التي بحاجة إلى معالجة ما يلي: 1- مفهوم (الحق أحب إلينا). والسؤال هنا: ما هو الحق الذي هو الأحب؟ إن هذه العبارة من حيث هي لا غبار عليها، وفيها من الحقيقة والمصداقية ما هو كافٍ للتعبير عمّا وراءها، ولكن مرة أخرى ما هو هذا الحق، ومَن هو صاحبه؟ وكيف يهتدى إليه؟! نسمع اليوم كثيرًا من الدعاة إذا أرادوا أن يخالفوا رأي شخص، أو فكرة جماعة، أو رأي جهة، أو مشروع فئة، يقولون: نحبهم ولكن الحق أحب إلينا. وبكل عفوية وبراءة نتساءل: ما هو الحق الذي يحبونه، ويعترضون في مقابلة على مَن لم يأخذ بما رأوا فيه الحق؟! إن من المقرر شرعًا أن المسائل المتفق عليها، والتي يعبّر عنها العلماء بالقطعي، الثبوت القطعي الدلالة أمر محسوم، ولكن سوى هذه الحقيقة اختلف العلماء من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. حتّى أنهم اختلفوا في نفس المسألة، كما يقرر ذلك علماء الأصول عند مبحث: هل الحق واحد أم متعدد؟! ونعود مرة أخرى لواقع المتدينين ونقول: كيف يا ترى سيكون موقفهم من المسائل المختلف عليها، والتي يرى كل من الأطراف المختلفة أن الحق معها، وأن الدليل يعضد رأيها؟! 2- مفهوم (ما هو الراجح؟). هناك عقول مسكونة بالبحث عن الراجح عن طريق التجميع أكثر منه عن طريق الفهم، والاستنباط العميق! فتجد أحد العلماء يعرض مسألة فقهية، ويورد أدلة الفريقين، وقوة الخلاف بينهما، ثم يأتي ناشئ متدين فيقول للشيخ الذي أورد الخلاف القديم: ما هو الراجح لديك؟! وقد يعتذر بعض العلماء والمعلمين عن الجواب متسائلاً: وماذا سيضيف رأيي لو رجحت أمام آراء مَن تقدموا بقرون ولم يحسم الخلاف لا سابقًا ولا لاحقًا؟ إنه لا يعدو إلاَّ أن يُضاف صوت خلافي ليس أكثر! إن البحث عن الراجح للقادر على ذلك مطلب صاحب العلم. وفي ظل المسائل التي ظل الخلاف فيها متجذّرًا وعميقًا. سيكون الراجح لدى الباحث لا يعدو أن يكون كما قال الشافعي: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب» لا أكثر! 3- مفهوم (لا إنكار في مسائل الخلاف). وهذا العبارة المشهورة ضبطها بعض الأصوليين بقولهم: وليس كل خلاف جاء معتبرًا إلاَّ خلاف له حظ من النظر والحقيقة أن هذا البيت النفيس عبّر لو تأمل المتدينون عن قمة السماحة، إذ إنه اكتفى بقول: (حظ) من النظر! فمجرد وجود حظ من النظر، والفهم يكفي أين يكون أمرًا مختلفًا عليه! وقد تطور ابن تيمية -رحمه الله- في إدراك هذا المعنى وتجلّى في فهمه ووعيه عندما قال في قاعدته النفيسة: «أمرك في المسائل الخلافية هو من باب الأمر بالمعروف لا من باب النهي عن المنكر»، وشتّان بينهما! وتحت كل دلالة خاطئة ناشئة عن هذه المفاهيم يمكن أن نمر ببساطة على مئات القصص والشواهد والأحداث التي تروى، ولا تطوى عن سوء التعامل والتنافر والشدة التي لا نرتضيها من المتدينين، والتي عبّر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «إن منكم منفرين». وتحت ظلال فهمها واستيعابها تقدم كل تحايا الشكر والتقدير للمتدينين الواعين، الفاهمين لدينهم، العقلاء في تصرفاتهم، الحكماء في توجيههم، الرائعين في تدينهم، المحبوبين في مجتمعهم، جعلنا الله منهم. [email protected]