أصدر سماحة المفتي العام للمملكة ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد آل الشيخ بياناً عن خطر منهج التكفير وما يجره من الاعتداء على الأنفس المعصومة ، فيما يلي نصه: من عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد آل الشيخ إلى من يراه من عموم المسلمين وفقهم الله لطاعته واتباع سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... وبعد : فإنه لا يخفى أن الأمة الإسلامية تمرُّ بمرحلة خطيرة في تاريخها , نسأل الله تعالى أن يفرج عنها ويخرجها من هذه الفتن إلى اجتماع الكلمة ووحدة الصف على هدي من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم . ونظرًا لهذه الأحداث المتسارعة الخطيرة في العالم الإسلامي , وما قد ينشأ في غمارها من شبه تجيز أو تهون من إهراق دماء المسلمين والآمنين في بلدانهم وما قد يذكيه بعضهم من نعرات جاهلية أو طائفية لا يستفيد منها إلا الطامع والحاقد والحاسد, فإننا نحب أن ننبه على خطورة الاعتداء على الأنفس المعصومة من مسلمين أو معاهدين أو مستأمنين , والأدلة في ذلك كثيرة جداً وذلك مما أجمع عليه المسلمون وهو من مقاصد هذا الدين العظيم , قال الله تعالى : " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما " (النساء 93) وقال سبحانه: " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا" (المائدة32) قال مجاهد رحمه الله " في الإثم " وهذا يدل على عظم قتل النفس بغير حق وقال النبي صلى الله عليه وسلم" لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم " أخرجه النسائي ، وقال صلى الله عليه وسلم " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس والثيب الزاني والمارق من الدين التارك للجماعة " متفق عليه وهذا لفظ البخاري وإقامة الحدود منوطة بولي الأمر كما قرر ذلك أهل العلم . ونظر ابن عمر رضي الله عنهما يوماً إلى الكعبة فقال: " ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك" . ومن أعظم ما يدل على خطورة التعرض للدماء والحذر الشديد تجاهها ما ثبت في الصحيحين واللفظ للبخاري من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال : " بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم فلما غشيناه قال : لا إله إلا الله فكف الأنصاري , فطعنته برمحي حتى قتلته , فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " يا أسامة أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله" فقلت : كان متعوذاً فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم . وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا " . ومن الأنفس المعصومة في الإسلام : أنفس المعاهدين وأهل الذمة والمستأمنين فعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً " أخرجه البخاري . ومن أدخله ولي أمر المسلمين بعقد أمان وعهد فإن نفسه وماله معصوم لا يجوز التعرض له ومن قتله فإنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لم يرح رائحة الجنة " . هذا ولما كانت حرمة دم المسلم وغيره ممن قررت الشريعة الإسلامية حرمته معلومة من الدين بالضرورة , فإن أهل الغلو والتطرف ابتدعوا منهج التكفير الذي يهون قتل المسلمين وغيرهم من المعصومين , ونشأ عن هذا المنهج التكفيري المبني على الشبه والتأويلات الباطلة استباحة الدماء , وانتهاك الأعراض , وسلب الأموال الخاصة والعامة , وتفجير المساكن والمركبات وتخريب المنشآت . والتكفير حكم شرعي مرده إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم , فكما أن التحليل والتحريم والإيجاب إلى الله ورسوله , فكذلك التكفير , وليس كل ما وصف بالكفر من قول أو فعل يكون كفراً أكبر مخرجاً عن الملة . ولما كان مرد حكم التكفير إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لم يجز أن نكفر إلا من دلَّ الكتاب والسنة على كفره دلالة واضحة , فلا يكفي في ذلك مجرد الشبهة والظن , لما يترتب على ذلك من الأحكام الخطيرة , وإذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات مع أن ما يترتب عليها أقل مما يترتب على التكفير , فالتكفير أولى أن يدرأ بالشبهات, ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الحكم بالتكفير على شخص ليس بكافر , فقال : " أيما أمرئ قال لأخيه : يا كافر , فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال :" وإلا رجعت عليه". وقد يرد في الكتاب والسنة ما يفهم منه أن هذا القول أو العمل أو الاعتقاد كفر , ولا يكفر من اتصف به لوجود مانع يمنع من كفره , وكل هذه التفصيلات تؤكد خطورة حكم التكفير من جهة , ومن جهة أخرى تؤكد على أهمية الرجوع في هذه الأحكام الخطيرة إلى كبار العلماء والذين يتدارسون في هيئاتهم الشرعية المعتبرة هذه القضايا ذات الآثارة الخطيرة على بلدان العالم الإسلامي وجماعتهم . وليتهم كل إنسان رأيه وليقدر ما تراه الهيئات العلمية المعتبرة التي يتوفر لها الاجتهاد الجماعي كما ثبت عن سهل بن حنيف رضي الله عنه أنه قال : " يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم , فلقد رأيتني يوم أبي جندل , ولو أستطيع أن أردُّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رددته , وما وضعنا سيوفنا على عواتقنا لأمر يفظعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه غير هذا الأمر " . وأخرج عبد الرازق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة السلماني سمعت عليًا رضي الله عنه يقول : اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد ألا يبعن ثم رأيت أن يبعن , قال عبيدة : فقلت له : فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلي من رأيك وحدك في الفرقة ، قال الحافظ ابن حجر : وهذا الإسناد معدود في أصح الأسانيد, وثبت عن علي رضي الله عنه أنه رجع عن ذلك. وليحذر المسلم من الانتساب إلى الجماعات التي تتبنى المنهج التكفيري فإن علماء المسلمين لا يوجد بينهم خلاف على تحريم مسلكهم وشناعته وخطورته , ويخشى على من انتسب إليهم خاتمة السوء نعوذ بالله من الخذلان أو أن نرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله . ونسأل الله تعالى أن يهدينا الصراط المستقيم وأن يرزقنا التمسك بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم على وفق فهم سلف هذه الأمة الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية , وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق وأن يتولانا وإياهم بحفظه ورعايته إنه سبحانه خير مسؤول وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته , المفتي العام للمملكة العربية السعودية رئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء