هذا السؤال الخطير سأله موقع إلكتروني تابع لمركز التنمية الأسرية بالدمام وكانت نتائج الاستبيان مذهلة، إذ ذهبت النسبة العظمي لمن أجابوا بأنها الوالدة!!
أعتقد أن ما قيل صحيح إلى حد بعيد، كما يصح عكسه أيضاً، فلطالما شكت لي أمهات وبنات من توتر العلاقة بينهما واستحالة التوافق بينهما.. والحق أن علاقة الابنة بالأم شيء معقد بالمطلق، لأنها إما أن تقوم على الانصياع التام "وهو ما لا يتناسب مع شخصيات فتيات عدة ولاسيما من هذا الجيل" وإما على التمرد التام.
وهربا من العموميات والتنظير الذي ولدت لمحاربته هذه الزاوية سأضرب من لدني مثالاً.. لطالما وصفت علاقتي بأمي
"بالمعقدة" في سنوات عمري الباكرة، ولاسيما أني رفضت سلطة والدتي في المنزل ومحاولاتها للتحكم في حياتي، كنت الثالثة بعد أختين ولم تواجه والدتي المشكلة ذاتها مع شقيقتي اللتين يكبرانني ربما لأني كنت أقربهن شبهاً لها.. فوالدتي امرأة قوية وعملية ومثقفة ورغم أنها تركت العمل مبكراً لتعتني بنا إلا أنها ظلت حريصة على متابعة الشأن العام، وكانت تستحوذ على الصحيفة ظهراً وتحرمنا من تصفحها لرؤية صفحات المنوعات! كما كانت ولا تزال امرأة معطاءة نشيطة تشغل أعمالها الخيرية والإنسانية حيزاً معلوماً من يومها وحياتها.
وامرأة كهذه بالطبع لا تحب أن تكسر لها كلمة، ولا أن يُعصى لها أمر وهو ما سبّب جملة من الاحتكاكات غير الضرورية بيننا لأني كنت أملك رأياً وأطالب باحترامه وأغضب لتجاهله على صغر سني..!
لم تكن والدتي مثلي الآن تتجاوز عن الأخطاء والعثرات الصغيرة، فقد كانت حساسة للتفاصيل ودقيقة في نظرتها للأمور.. كانت تنشد الكمال فينا ولا تقبل أن نتأخر دراسيا أو نخفق في أي مهمة أو حتى أن يزيد وزننا ما وضع عبئا على إمكاناتنا جميعاً وبنى ما نحن فيه الآن. بالنسبة لي بنيت حاجزاً بيني وبين تعليماتها ونصائحها المتواصلة.. كنت أريد أن أكون أنا لا نسخة مما تريد مني أن أكونه .. كنت أرى دفعها وتحديها لإمكاناتي ضغطاً غير مقبول.. ولم تحسن هي احتواء شخصيتي وأصرت على معاملتي كما تعامل أخواتي – رغم ما بين شخصياتنا من بون..
لا أعرف متي وكيف ولماذا ولكني قررت ذات يوم أني أريد أن أتوقف، ولا أريد أن أكون نداًّ لوالدتي وكنت وقتها في السابعة عشرة على ما أعتقد.. قررت أن أمدّّ لها حبل الوصل عبر إشراكها في أفكاري وأخباري وتطلعاتي ومشكلاتي .. لا أذكر وقتها إلا أنها فوجئت بانفتاحي عليها واختلطت تعابير الدهشة بالغبطة بالتأثر في محياها.. لم يكن من السهل عليها أن تبادر بكسر الجليد بيننا، ولكن المبادرة من الابنة عادة ما تكون أسهل.. وبصمت وهدوء ثمّنت والدتي تغير تصرفاتي معها فتخلت عن أسلوب الوعظ الفوقي واستمعت لي كصديقة وعاملتني كصديقة وهكذا تغير نمط العلاقة بيننا فتحولت والدتي شيئا فشيئا لأقرب صديقاتي ومكمن أسراري وهو ما حماني من أخطاء عديدة لاحقا.
حدث التوافق بين شخصيتين متشابهتين/ متنافرتين ربما لأنها استسلمت لحقيقة أني رقم صعب ولا أصلح كتابع، وربما لأنني احترمت قوة شخصيتها وقررت أخيراً أن أستفيد منها.. لم تكن رحلة التوافق تلك سهلة ولكنها كانت ممكنة في ظل وجود رغبة مشتركة.. أعتقد أن ما أريد قوله إن العلاقة بين الأم وابنتها ليست سهلة بالفطرة، كما يُراد لنا أن نظن، هناك جهد مشترك يجب أن يبذل من الطرفين ولاسيما إن كانت شخصياتهم متشابهة، وغالبا ما ستأتي ثمار هذا الجهود مجزيةً.. أكثر مما تظنون.