عاش الحطيئة في عصرين الجاهلية والإسلام ولكن هذا لم يغير نقطة سوداء في عقله وقلبه فظل يسلق الناس بلسان حاد وكان هجاءً لم يسلم من لسانه أحد ولا حتى والديه ونفسه. وفي رأيي أن ذلك الهجاء كان نافذته التي يطلق منها أحقاده ولذلك أسباب متعددة منها: حقده على مجتمع لم يتسامح معه كونه عاش بين أفراد قبيلة بني عبس دعياً لم يعرف له نسب. ولا شك أن هذا كان مؤذياً له لأنه كان يشعر بهوانه عليهم فلا يعان ولا يجد منهم تلطفاً بأحوالة ولم يكن قادراً على تجاوز أثر ذلك في نفسه فانبرى -في محاولة تعويضية بائسة لذاته- يسيء لهذا وذاك ويمارس الاستعطاف والتذلل إذا حوسب على سوء سلوكه كما حدث عندما سجنه عمر رضي الله عنه عقاباً له على حدة هجائه فظل يستعطفه بحال أبنائه من بعده في قصيدته المشهورة التي منها: فالذين يرضون بالمهانة من التذلل والتمسكن والتمارض فلأنهم يتوهمون أن في هذا مكاسب لهم وعلى رأسها تعاطف الناس معهم ولكن الحقيقة أن هذا وإن حدث بعض الوقت فهو لا يستمر وهنا يحدث العكس تماماً فيتخلى عنه الجميع ويجد نفسه يعاني فعلاً فلا تمتد له يد ماذا تقول لأفراخ بذي مرخزغب الحواصل لا ماء ولا شجر ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة فاغفر عليك سلام الله يا عمر فامنن على صبية بالرمل مسكنهم بين الاباطح يغشاهم بها القدر وهذه الأبيات لا تشير إلى الحطيئة فقط فهي تعطينا دلالة على سلوك كل مخطئ يميل لا شعورياً إلى التمسكن بعد أن يتمرغ في وضع لم يحاول أن يغيره إلى ما هو أفضل ليس في زمن الشاعر فقط ولكن في كل زمان ومكان فالذين يرضون بالمهانة من التذلل والتمسكن والتمارض فلأنهم يتوهمون أن في هذا مكاسب لهم وعلى رأسها تعاطف الناس معهم ولكن الحقيقة أن هذا وإن حدث بعض الوقت فهو لا يستمر وهنا يحدث العكس تماماً فيتخلى عنه الجميع ويجد نفسه يعاني فعلاً فلا تمتد له يد. فإما أن يزيد انكساراً أو يتحول إلى عدائي يحارب الجميع بلسانه أو فعله السيئ. ولكم أن تتحققوا من ذلك اذا ما قارنتم بين الحطيئة وعنترة؛ فعنترة العبسي كان عبداً مملوكاً عند بني عبس ولكن سيرته فيها من العزة والكرامة شيء كثير وهي رفعة صنعها لنفسه بشجاعته وتميزه بين قومه بها وهذا ما جعله مختلفاً فامتلأ شعره بالفخر والحب على عكس الحطيئة وغيره من الهجائيين!! وقد قال عنترة مفاخراً بنفسه: ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها قيل الفوارس ويك عنتر أقدم وفي هذا دليل على أنه صنع لنفسه ما يفخر به بين القوم وفي ذلك شفاء له من سقم الإحساس بالنقص. لأنهم حاولوا كثيراً ان يهينوه وينتقصوا من قدره ولكنه كان يقاوم ذلك بأفعاله لا بأقواله وحكي أن عمه بالولاء قال له ذات حرب (كر يا عنترة) فقال عنترة مذكراً عمه بما كان وغيره يقولونه له ليحطوا من قدره: (العبد لا يحسن الكر وإنما يحسن الحلاب والصر) فلم يجد عمه بداً من أن يقول له (كر وأنت حر) فحصل على حريته وزادت مكانته تعزيزاً بين قومه. اليوم كم حطيئة بيننا يتلذذ بإيذاء الناس لأنه مريض يستلذ بإيذاء نفسه قبل إيذاء الآخرين باستمرار فكأنهم لا يستطيعون توجيه أنفسهم للصواب ويفتحون أعينهم في الصباح وهم لا يدرون لمن سيكون الهجاء اليوم كحال الحطيئة عندما قال: أبت شفتاي اليوم إلا تكلماً بهجو فما أدري لمن أنا قائله Twitter: @amalaltoaimi