في مقهى جورين العتيق سحب تتراكم شيئاً فشيئاً ، تتمدد أكثر فأكثر حتى غطت سماءنا وآفاقها المظلمة ، لم تمطر لم ترعد أو تبرق أو تزمجر ، يزيد تراكمها فيزيد تمددها وانخفاضها حتى وصلت إلى الأرض ، اختلطت بنا وبكل حاسة اتصلت بها ، بدأت أمطارها بالهمس والسكينة ، كان المطر يتطاير من كل صوب واتجاه ، فخالف عادته بالنزول من الأعلى ، شعرنا ببلله المكثف ، ورائحته المميزة ، وسكرته الفاترة ، وتحليقه الفاتن ، سحاب ليس كالسحب المشتهاة من الأرض والنبات والحياة ، سحاب لنا وليس للآخرين ، فضج منه أحدنا وهو من الآخرين !! ، أحسست بضجره ونحن ننفث ما امتلأت به صدورنا المدخنة ، ويزيد تأففا من حركة النادل وهو يدور بعربته ملبياً الطلبات الحثيثة للقناني الخضراء ، ويمتعض وجهه لسماع ثورة فتحها الهائج ، نراه انتصاراً على ذواتنا ويراه خيبة وسقوطاً ويصفنا بالهاربين من الواقع ، نحتد في حوارنا وتعلو أصواتنا ، وما نلبث قليلاً إلا وقد تحول كلامنا إلى ضحك وتعليقات بدون خيط يربطها ، ثم يلتفت إلينا متبرماً مستفهماً : - ما الذي يضحككم ؟ ، ألا تخجلون من أنفسكم ؟ من شواربكم ومن بياض عوارضكم ؟؟ ، لكن الملامة علي وقد رضيت بهذا المكان ؟؟! ونزيد ضحكاً من كلامه ، وحينما تصدح أم كلثوم بأغانيها الخالدة نشنف المكان بآهاتنا وتصفيقنا ، ورؤوسنا تتمايل طرباً لها وللسحاب الممتزج بدمائنا ، لكن طربي انقبض في داخلي حينما التقت عيني في عينيه وشعرت بحسرته تستغيث بي .... آه .. ثم آه منكم و من غيكم ، أنتم في قمة متعتكم وأنا في تعاسة وضيق ، أنتم في استرخاء من أعصابكم وأنا في شدة وكر وفر معها ، أنتم تهدرون الوقت والصحة والعمر وأنا في حسرة على فقدان كل هذا ، أنتم تجلبون الشيطان لمؤنسته وأنا أكرر الاستعاذة منه ألف مرة ومرة ! ، آه .. ثم آه منكم !! اقتربت منه قليلاً وهمست بأذنه .... * أقسم بالله أني أحس بتأففك وضجرك ومللك .. لكن لا عليك .. سنخرج الآن !! فقط عليك الاحتمال قليلاً وسنخرج دون رجعة !! . ثم دنوت منه أكثر و أطلقت زفراتي .... * أتدري ما هو الفرق بيننا؟ .. أنك تشرب الشاي كثيراً ونحن نشرب عصائر الشعير المعطر ، أنت لك تذوقك الخاص ونحن لنا مذاق يحلق مع السحاب .. حتى غدونا في عباب السحاب .. !! ، نحن السحاب الفارغ من مائه ، نحن الماء المختلط بالأدخنة والتلوث وزفرات الحياة !! بعد أن انفض سامرنا وانجلى سحابنا وكفكف المطر دموعه ، انتبهنا وقد عاد النظر إلى صوابه ، وانكشفنا بعد أن قرأ سطورنا ، وولى هارباً إلى خارج السماء ، لحقنا به بشغف وتوق لمعرفة حاله ، كان واقفاً في الخارج إزاء شبابيك العرض الخاصة بالكتب الجديدة ، التفتنا سوياً إلى بعض والدهشة تعلو وجوهنا من غير حديث أو حوار !!