في الوقت الذي يشهد الاقتصاد الهندي تقدمًا سريعًا على الاقتصاديات العريقة والقوية وينافسها بقوة ما زال لديه الكثير من المشاكل التي تعيق انطلاقته القوية كالفساد والتلاعب وغسيل الأموال والكثير مما اسميه العث الاقتصادي الذي ينخر التنمية في أي بلد. المدهش في التقدم الاقتصادي الهندي ليس السياسات التي تتخذها حكومته وإن كانت لها اليد الطولى ولكن ذلك الفكر الذي يتجلى بكل سحره في أدبيات الاقتصاديين الهنود والذي بات مقدرًا عالميًا، وأكثر ما يمكنني ملاحظته في هذا الصدد هو الولاء المطلق للهنود لبلدانهم وقومياتهم وجنسيتهم ونشأتهم، لذا فإنهم بهذا الولاء قد رفعوا قدرا عاليا لحظوظ الهند في جميع الأصعدة وبالذات على صعيد الاقتصاد والتنمية، فالاقتصاد الهندي اليوم مرشح لأن يكون خامس اقتصاد عالمي، وأن تتبوأ الهند هذه المرتبة متقدمة على اقتصادات عريقة كالفرنسي والبريطاني الذي كانت تحت سلطته لعقود طويلة جدا، ما يعتبرها محللون أنها إحدى عجائب هذا البلد وتُنبئ بقوته وقدرته وتمكنه. فنحن في بلداننا الخليجية ما زلنا لا نتصور ذلك بسبب استعانتنا بالعمالة الهندية الرخيصة في جميع قطاعات العمل بأسواقنا، هذه الاستعانة نمت بداخلنا استهانة لهؤلاء القوم، بيد أن القدرة والقوة المتمثلة بالأيدي العاملة البشرية الهندية تعتبر أكبر العوامل في الرهان على نجاح الهند في أن تصف اليوم مصاف الدول الاقتصادية الكبيرة بعد أن كانت نامية ومن ثم صاعدة. ففي دراسة لمركز أبحاث الأعمال والاقتصاد بلندن توقع أن تحتل الهند هذا المقام في هذا العام بعد أن تنبأت بعض الدراسات أن تصل هذه المرتبة في 2020، وأكد على أنها ستصل للمرتبة الثالثة بحلول 2032. ما يعني العمل الدؤوب الذي تمضي الهند به مبتعدة عن كل التوترات والأزمات السياسية العالمية، وحتى أزماتها هي. والفكرة تكمن في استراتيجية الهند عبر توفيرها الطاقة الرخيصة والثورة الرقمية التي تستعين فيها بالعقول المتوفرة، لذا تكمن المفارقة في اعتماد الهند على المفكرين والمنظرين فيها وهؤلاء الذين بنوا قيم الهند ومواريثها وأسسوها منذ قديم الزمن، لذا فإن اقتصاد الهند اليوم قد بُني على نظريات أساتذة الاقتصاد وفلاسفته الهنود وهذا الفكر يرتكز على نشر العدالة الاجتماعية والمساواة والمساعدة والإحساس بالواجب نحو المجتمع. وعليه يمكننا أن نرى ذلك التجلي في الأفراد الهنود الذين يتميزون بحس المسؤولية وتقديم هم المجتمع والعائلة على أنفسهم سواء كان هذا الفرد حالته الاجتماعية جيدة أو ضعيفة، إنه يشعر بالواجب، وعليه قس قيمة العدالة الاجتماعية على مستوى الأفراد إنه قدوة. ومن ذلك نرى أن أغلب الاقتصاديين الهنود هم بالأساس أصحاب فكر فلسفي يهدف إلى نشر العدالة الاجتماعية والتوازن المجتمعي وتوزيع الثروات بالتساوي، ومع اختلاف مستواهم الاجتماعي بين الطبقة فاحشة الثراء والطبقة المتوسطة أولئك الذين ولدوا وهم لم يشعروا بالفقر ولكنهم عاشوا هموم الفقراء وتعايشوا معهم من منطلق محبة القوم والإحساس بالواجب المجتمعي والوطني، لذا كان أشهرهم من تبنى نظرية العدالة الاجتماعية تلك بل بعضهم بات هذا الأمر همه ومسعاه، فمنهم من حصل من خلالها على جائزة نوبل ومنهم من ترجمها بمشاريع ناجحة تستهدف الفقراء والقضاء على الفقر. ويعود ذلك بكل تأكيد لمعيشتهم في مجتمع يتميز بالتفاوت الطبقي الصارخ وهو ما يتميز به المجتمع الهندي الكبير في شبه القارة الهندية، فحين تقول هندي فأنت تشمل كل الهنود بدولهم القابعة في تلك القارة من بنغلادش وسيرلانكا ونيبال وغيرها- فهؤلاء جميعهم بذات الثقافة والأعراف والتقاليد والمعرفة والقبلية فما يفرقهم إلا الحدود التي بناها استعمارهم. فحين تقود الحكومة حملة لإلغاء أكبر العملات في البلد وتقر اصلاحات ضريبية تستهدف بها فاحشي الثراء وهذا الأمر قد شكل ضربة للاقتصاد الهندي أدى لهبوط نسبة النمو فيه إلى 5.7 بالمائة في الثلاثة شهور الأولى، فهذا يعني أن القيم هي التي تحكم هذا البلد ولا يهمها إلا الإصلاح والبلد. يقول الاقتصادي والفيلسوف الهندي الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد امارتيا سن في كتابه الذي أعكف على قراءته (فكرة العدالة): «العدالة مرتبطة في النهاية بطريقة حياة الناس لا بطبيعة المؤسسات المحيطة بهم فحسب»، أنا مؤمنة بهذه الفكرة إيمانا مطلقاالفكرة هنا بأننا يجب أن نولي للعلماء والباحثين والمؤسسات التعليمية والعلمية الكثير من الأهمية لتبني لنا قاعدة النمو الصحيح بتعزيز القيم الاجتماعية، كم نحتاج لمنظرين ليرمموا فساد مجتمعاتنا العربية التي تنخر في مؤسسات الاقتصاد لنلوم بعدها السلطة بدلاً من الأفراد الذين يشاركون في المجتمع. إن العدالة التي يطالب بها الفرد يجب أن يقدمها هو أولا بما استطاعه وقدر عليه، ثم يطالب بها السلطة فيكون حقا له لا عليه، وأن يعزز بداخله الولاء للوطن ولمحيطه بدلا من انتقاد كل شيء، فهذا ما يشكل العدالة التي تبني دولته ومؤسساتها ومن ثم الاقتصاد وتنميه، لنتعلم من الهنود بعضا مما نفتقر إليه.