في المقبرة مجموعة من الأموات يتحدثون بصمت المقبرة الفظيع والأبدي يقول الأول: عشت حياتي قلقا، كنت قلقا من الفشل، ثم قلقت من الزواج ومستقبل الأسرة، ثم عشت قلقاً لأتكفل لهم بلقمة العيش والسكن الذي يناسب انطباعات الناس بغض النظر عن مناسبته لراحتنا واحتياجاتنا، ثم قلقت على مستقبل البنات أكثر من الصبيان إلى أن وضعت يدي بيد أزواجهن، وقلقا على ذريتي حتى رأيت أبناء أبنائي الذكور، والآن أنا قلق جداً ألا ادرك لحظة استدراك هذه النعم والتمتع بها قبل الموت. رد عليه استاذ جامعي لصيق بقبره، يتأمل في ظلام داكن اصابعه يقول: لا أعلم ما هذه الآثار بيدي أهي طبشور، أم أقلام، أم مرض ألم بيدي، كنت أظن عقلي هو مصدر رزقي وركضت خلفه دون توقف، مثلك، عشت التصحر العاطفي والاجتماعي والانساني لكني عشت قلق المعرفة وليس المادة وهناك فرق (كان سيستطرد إلى ما لا نهاية وكأنها محاضرة). قاطعته سيدة من المقبرة ليست ببعيدة عنه قالت كنت أظن أن تكوين أسرة أمر ممتع! وكنت أظن أن دموعي وأنا طفلة لا تؤثر بوالدي إلى ان جاءت اللحظة التي رأيت بها دموع ابنتي وشعرت بضعفي وكلما كبرت، تفاقمت مشاكلها حتى خرجت خارج حدود منزلي. كنت ابتلع الدمع وامضغ الملح أمام اصغر مشاكلها، السؤال الذي لم اجد له اجابة كم مرةً بكيت أمام أمي، وكم مرة اصبتها بالأرق، وبعد أن صارت لي أسرة تركتها وحيدة! أودّ ان احتضن أمي بعد ان طالني ما طالها، الغريب أني لم أعد أذكر طريق منزلها ولا أراه. في المقبرة يبدو تاجر له ماضٍ (طباخ) اعتاد طبخ كل شيء حتى النقود والبشر، يقول: كنت اخاف ألا أشبع فأكلت أرزاق الناس بالحق والباطل، سراً وجهراً، وحين مللت من المال شرعت بأكل المعسرين منهم، فكرة الفقر كانت مخيفة جداً وفكرة ان أتحول لمضغة لأحدهم كانت مرعبة، لحم البشر زفر لكن ضعفهم أزفر. أكمل الفكرة رجل كهل يشبهه من أقصى المقبرة يقول: كنت مثلك اجمع كل شيء خوفاً من الفقر، بخلت حتى على نفسي وأهل بيتي بالملبس والمأكل ولا أذكر أني قدمت مالاً لصغير أو محتاج خشية أن اموت فقيراً، بعد الدفن ذهب الجميع واقترب أكبر أحفادي وهمس: احضرت لك أعز أصدقائك لينير قبرك ويؤنس وحشتك، وليدعو لك حين تحتاج الدعاء وينشغل أبناؤك ومحبوك، فلطالما حرصت عليه وزهدت بالبقية، ودفن في قبري ورقة بريال فرنسي. ضج الموتى بالبكاء (تقول دفن) فسمعتهم قطة سوداء وردت عليهم بلغة لم يفهموها، خافوا وعادوا للحديث بصمت.