لِسانُ الفَتَى نِصْفٌ ونِصفٌ فؤادُهُ... فلم يَبقَ إِلاَّ صُورةُ اللَّحمِ والدَّمِ «زهير بن أبي سلمى» يتواصل البشر مع بعضهم البعض باستخدام مجموعة هائلة من اللغات يبلغ تعدادها نحو 7000 لغة، كل واحدة منها تختلف عن الأخرى بطرق لا تعد ولا تحصى. فهل تشكل اللغات التي نتحدث بها الشكل والطريقة التي نرى بها العالم، والطريقة التي نفكر بها، والطريقة التي نعيش بها حياتنا؟ وهل الناس الذين يتكلمون لغات مختلفة يفكرون أيضا بطرق مختلفة فقط لمجرد أنهم يتحدثون بلغات مختلفة؟ وهل تعلم لغات جديدة يغير طريقة تفكيرنا؟ لفترة طويلة، اعتبرت فكرة أن اللغة تشكل الفكر، أمرًا غير مقبول. ولكن الدراسات التجريبية التي قامت بها مؤخرا الباحثة «ليرا بوروديتسكي» بمعامل جامعة ستانفورد وكذلك جامعة إم آي تي، ساعدت على إعادة طرح التساؤل حول علاقة اللغة بتشكيل الفكر. ما كشفته هذه الدراسات التي شملت الصين، واليونان، وتشيلي، وأندونيسيا، وروسيا، بالإضافة إلى السكان الأصليين بأستراليا، هو أن الناس الذين يتكلمون لغات مختلفة يفكرون في الحقيقة بطريقة مختلفة، ويرون العالم بشكل مختلف تماما. لذلك، فتعلم لغة أخرى ليس أمرًا سهلًا، لأن كل لغة هي طريقة تفكير مختلفة. ومن مجالات الاختلاف بين اللغات هو التوصيف المكاني والزماني. فهناك نحو ثلث لغات العالم تستخدم كلمات مطلقة للاستدلال المكاني، بينما لغات أخرى تستخدم الاستدلال النسبي. فعلى سبيل المثال، يستخدم الاستراليون الأصليون الجهات لوصف المكان، فيقول أحدهم مثلا: «فلان يقف إلى الشرق مني» بينما يقول الإنجليزي: «فلان يقف خلفي، أو أمامي، أو يميني، أو يساري». عندما سُئلت طفلة من الاستراليين الأصليين، عمرها خمس سنوات عن اتجاه الشمال، أشارت بدون تردد إلى ناحية الشمال، بينما عجز بشكل كبير علماء بارزون في تجارب متعددة في كل من الولاياتالمتحدة وروسيا وإنجلترا والصين عن تحديد جهة الشمال، والسبب في ذلك هو أنه بخلاف اللغة الإنجليزية والصينية والروسية، فإن لغة الأستراليين الأصليين تعتمد على المفردات المطلقة في تحديد البعد المكاني. ولذلك، فإن لغتهم تشكل بوصلة لهم في تحديد مواقعهم ومواقع الأشياء حولهم. وبعيدا عن مجالات التجريد والتعقيد الفكري في البعدين الزماني والمكاني، فإن اللغات تتدخل أيضا في الجوانب الأساسية للإدراك البصري، فالقدرة على تمييز الألوان تختلف من لغة لأخرى، على سبيل المثال، فإن اللغات تختلف بتقسيمات تدرّج اللون، فبعضها لديها تمييز أكثر دقة من بعضها الآخر. فاللغة الروسية مثلا تتعامل مع الأزرق الفاتح والأزرق الغامق على أنهما لونان أساسيان مختلفان، لذلك فالروس في تجربة لتسمية الألوان كانوا أسرع من غيرهم في تصنيف أطياف اللون الأزرق. كما أن التأنيث والتذكير في الأسماء يوجد في بعض اللغات دون غيرها، وهذا يحتم على المتكلم تغيير الضمائر والصفات والأفعال المصاحبة للاسم حسب تذكيره أو تأنيثه، كما هو في اللغة العربية أو الأسبانية أو الألمانية أو الروسية، على سبيل المثال. حتى فيما يتعلق بالمعاني المجردة مثل الموت والحياة والإيمان والشجاعة والسخاء، عندما تُجسَّد من قبل الرسامين التجريديين فإنها في 85 % من الحالات ترسم بأشكال بشرية مختلفة الجنس حسب لغة الفنان. فالعربي عندما يرسم الموت، قد يظهره على شكل رجل، بينما يرسمه الرسام الروسي على شكل امرأة. وقد وُجد أن الأمم التي تفرّق لغاتها بين الأسماء تذكيرا وتأنيثًا مثل العربية، تكون أمما ذكوريّة، وتدعو للتفريق بين الجنسين. بينما الأمم التي لا يوجد في لغاتها جنس للأسماء كاللغة الإنجليزية، فإنها تكون أقل ذكوريّة وتفريقا. كما وُجد أن المشاركة النسائية في قوة العمل في البلدان التي لغتها تستخدم النظام القائم على تأنيث وتذكير الأسماء، تقل بنحو 12% عن التي تستخدم لغة حيادية، بغض النظر عن الموقع الجغرافي والتاريخ والدين والمناخ لهذه البلدان. كما أن وجهات نظرنا قد تتغير طبقا للغة التي نستخدمها في التعبير عنها، ولفحص ذلك، تم تطبيق تجربة على عينة من العرب ثنائيّي اللغة (الذين يتحدثون اللغتين العربية والعبرية) داخل الكيان الصهيوني. فقد أعطى الباحثان «شاي دانزيجر» من جامعة بن غوريون و«روبرت وارد» من جامعة بانجور (2010م) المشاركين نصوصا وطلبا منهم ملاحظة الكلمات التي تحمل دلالات سلبية أو إيجابية. عندما قُدِّم الاختبار باللغة العربية، أشار المشاركون إلى الأسماء اليهودية في النص بأنها سلبية في جوهرها، ولكن اختفى هذا التأثير عندما كان النص باللغة العبرية. واستنتج الباحثان من هذا، بأن تحيّز العرب ضد الأسماء اليهودية نشأ من حقيقة أنهم كانوا يفكرون باللغة العربية في ذلك الوقت، ولا يدل بالضرورة على أي تحيز عميق الجذور ضد اليهود. هو استنتاج خطير جدا، ويعني فيما يعني أنه لو قضي على اللغة العربية، فإن هؤلاء قد ينسون أنهم عرب وأن أرضهم محتلة، وسوف يتعايشون مع الواقع، وهذا ينطبق على باقي العرب، فلو هزمت اللغة العربية ودحرت في عقر دارها - لا سمح الله - فذلك يمهد لاحتلال عقول أبنائها، وإذا تم احتلال عقول العرب، فذلك يمهد لاحتلال الأرض وما عليها وما تحتها. يتبع..