قبل نحو ثلاثة عقود وتحديدا في الفترة من 1984م حتى 1989م، كتب الروائي عبدالرحمن منيف خماسيته الشهيرة مدن الملح، والتي وإن كانت عملا أدبيا، إلا أنها تناولتْ العديد من الأسئلة حول تأثير اكتشاف النفط في بلادنا على الثقافة العامة، وعلى أنماط السلوك الاجتماعي، وطرح منيف من خلالها نبوءته الأخطر التي جاءت في سياق مضامين العمل الروائي، وأفصح عنها لاحقا في لقاءاته المتعددة مع الناقد والمفكر الفلسطيني فيصل دراج، حيث رأى أن ثقافة النفط التي اجتاحت الذهن الاجتماعي، ستؤدي في النهاية إلى مخاطر فكرية وسلوكية، ستفضي بدورها إلى بناء قيم اتكالية تسهم في تعزيز ثقافة الاستهلاك الباذخ رغم ارتكازها على سلعة قابلة للنضوب، وقال ضمن ما قال لفيصل دراج: إن هذه المدن الفارهة، وضمن سياق الإذعان لسلطة النفط، وثقافة النفط، ستصبح بالنتيجة عبارة عن مدن ملح، كما ستتحول هذه المساكن الخرسانية فور نضوبه، وتوقف القدرة على توليد الكهرباء فيه إلى أفران في الصيف، (وفريزرات) تجميد في الشتاء، إلى غير ما هنالك من نذر الشر المستطير التي روجتْ لها الرواية واسعة الانتشار. طبعا ما كان منيف هو أول من طرح سؤال: وماذا بعد النفط؟، هنالك اقتصاديون وسياسيون وصحافيون كثر طرحوا ذات السؤال، وفي أوقات مختلفة، لكنه كان طرحاً مجرداً، يميل إلى دعة خدر الرفاه، أكثر من بحثه عن إجابة، وأكثر من كونه سؤالا إستراتيجيا يستدعي إجابة عملية ناجزة، فيما ظل فرعه الآخر المتصل بثقافة النفط غير مطروح للتداول قبل منيف وخماسيته، إلى درجة أن بعضنا اعتبر أن جملة «ثقافة النفط» إنما هي سبة يلزم التبرؤ منها، كما لم تتبلور أي إجابة عملية حول هذا السؤال، عدا بعض الحديث عن ضرورة تنويع مصادر الدخل، ربما لرفع العتب وحسب. محمد بن سلمان، أجاب نظرياً حتى الآن، ولأول مرة عن طروحات تلك الرواية عبر تبني مشروع «رؤية السعودية 2030»، وبرنامج التحول الوطني، فالمشروع يجيب أول ما يجيب عن سؤال: ماذا بعد النفط؟، بتلك الخطط التي تسعى لاستثمار نقاط قوة البلد للخروج من الارتهان إلى النفط.. هذا أولا، الجانب الثاني أن ولي ولي العهد تحدث ولأول مرة ومن هذا الموقع المتقدم في سلم القيادة عن ثقافة النفط، قال: يجب أن نعي أن أرامكو ليست جزءا من ديننا، هي مجرد استثمار، وهذا أول رد رسمي على أهم أسئلة رواية منيف، وبصرف النظر عن مواقف الاقتصاديين من هذه المسألة ومن الاكتتاب، إلا أن مجرد الخوض في مناقشة ثقافة النفط، وفتح الأفق للحوار فيها، لا بد وأن ينزع الكثير من مسلمات الاقتصاد الريعي الذي لا يمكن أن يكتب له الدوام بأي حال، لأن العالم تجاوز دولة الضمان الاجتماعي لغير العاجزين إلى الأبد. مشروع الرؤية طرح ثقافة النفط على طاولة البحث «في عناوينه على الأقل حتى الآن»، ويبدو أنه سيجعلها أحد مرتكزاته في آليات تنفيذه، وهذا هو الأهم، لأن أي تغيير أو تحوّل جدّي لا يمكن أن يحدث بمعزل عن تغيير وتحوّل نمط التفكير، وطبيعة الثقافة السائدة «سياسياً، وفكرياً، واقتصادياً»، فالثقافة الاجتماعية، وتنقيتها من المعوقات هي الحاضن الطبيعي لأي عملية تحول وطني حقيقي، وهذا هو مدخل المتفائلين الذين لمسوا عزيمة التغيير في ذهاب هذه الرؤية إلى الجانب الثقافي كما لم يحدث من قبل، والذي هو بمثابة دم الشريان لأي مشروع، لأن الاقتصاد في النهاية هو ثقافة مجتمع، وكيفما يفكر المجتمع يكون اقتصاده. باختصار.. لا بد أن هذه (الرؤية) قد استدعتْ (الرواية) إلى أذهان كثيرين، كما لو أنها جاءت لتجيب عن تساؤلاتها، لتجعل السياسي يقف عمليا في مواجهة الروائي، ليقول: لا.. لن تكون مدننا مدناً للملح، وإنما مدن للربح وللاستثمار العابر للحدود، إنه التحدي بين تطلعات الرؤية ومزاعم الرواية.