قبل خمس سنوات، انتشرت الاحتجاجات والاضطرابات في أنحاء الشرق الأوسط في ما اصطُلح على تسميته «الربيع العربي». في 17 ديسمبر 2010، أشعل بائع متجول تونسي النار في نفسه احتجاجًا على الحكومة. ولم يكن واضحًا في ذلك الوقت أن عملًا منفردًا للتضحية بالنفس سيحفز المعارضة في جميع أنحاء المنطقة. لكن اكتسبت الاحتجاجات زخمًا في تونس، وفي يوم 14 يناير 2011، استقال زين العابدين بن علي، الذي كان قد تولى الرئاسة منذ عام 1987، وهرب. وفي 25 يناير، بدأت الاحتجاجات في مصر وانتهت بخلع الرئيس المصري حسني مبارك في نهاية المطاف. وانتشرت الاضطرابات في سورياوالعراق واليمن وليبيا ولبنان. وكانت مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية قد استحدثت مصطلح «الربيع العربي» في 6 يناير. وبحلول منتصف الشهر، قبل بدء الاحتجاجات حتى في مصر، كانت المطبوعات الرئيسية في جميع أنحاء العالم تستخدم هذا المصطلح. لقد بدأت الثورات الليبرالية الكبرى في الشرق الأوسط بعد طول انتظار، أو هكذا رُوِيت القصة. أحلام وكوابيس بعد خمس سنوات مرت سريعًا، تحولت أحلام الربيع العربي إلى كوابيس. كانت هذه الأحلام هي البذور العضوية لنشر الديمقراطية الليبرالية في الشرق الأوسط. ووفقًا لتقديرات الأممالمتحدة، فقد لقي أكثر من 250 ألف شخص مصرعهم في الحرب الأهلية السورية. وأصبحت العراق ساحة حرب طائفية على وشك التقسيم إلى ثلاثة أجزاء. وتطور تنظيم «داعش» من مجموعة إرهابية إلى مجموعة استبدادية تسيطر على مساحات واسعة من الأراضي وتصمد حتى الآن أمام كل الضربات الجوية التي شنها الغرب وروسيا. وبات يتدفق الملايين من اللاجئين على أوروبا وإلى أي مكان آخر يمكن أن يجدوا فيه ملاذًا آمنًا. وفي 13 نوفمبر، قام الإرهابيون المرتبطون ب «داعش» بشن هجوم متطور ضد أهداف متعددة في باريس. انتاب الذهول العالم الغربي. صحيح أن هناك المئات من الأشخاص الذين يموتون يوميًا نتيجة العنف المروع في العالم، لكن هجمات باريس كانت شخصية بالنسبة للغرب، وكان تدفق مشاعر التعاطف والدعم صادق الحس وواسع النطاق. صار تنظيم «داعش» في خطابه الشعبي مثل ألمانيا النازية في القرن ال21. فكلما واجه الغرب الشر، يبدو استحضار أدولف هتلر حتميًا. الربيع العربي وربيع براغ غالبًا ما يستخدم الغرب التاريخ الغربي لفهم الثقافات غير الغربية. وتم استعارة مصطلح «الربيع العربي» من «ربيع براغ». في عام 1968، انتُخب ألكسندر دوبتشيك السكرتير الأول للحزب الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا. حاول دوبتشيك تنفيذ مجموعة واسعة من الإصلاحات، بما في ذلك تحقيق اللامركزية في الاقتصاد ورفع القيود عن الصحافة، لكن لم تدم جهوده طويلًا. استغرق الأمر تسعة أشهر من السوفييت وحلفائهم في حلف وارسو لإرسال نصف مليون جندي إلى البلاد لإنهاء القصة. وفي هذا السياق، اعتبر جاكوب شابيرو، أستاذ مساعد في العلوم السياسية والشئون الدولية في جامعة بريستون الأمريكية، في تحليل له نشره موقع «جيوبوليتيكال فيوتشرز» الأمريكي اختيار الغرب لمصطلح «الربيع العربي» لوصف ما كان يحدث في العالم العربي إشارة على مدى سوء فهم الغرب للواقع. ولفت شابيرو إلى أن هذا المصطلح قد استُخدم لأول مرة في عام 2005 لوصف تصاعد قصير في الحركات الديمقراطية في الشرق الأوسط. بعد ذلك، في عام 2011، افترض الغرب أن صعود الحركات الديمقراطية في الشرق الأوسط يأتي على غرار انتفاضات الحركات المعادية للسوفييت في أوروبا الشرقية. رجعية الربيع العربي ويرى شابيرو أن الربيع العربي كان عبارة عن حركة رجعية، موضحًا أن العناصر المحافظة والدينية في العالم العربي دعمت احتجاجات 2011 لأنها تشكل انتفاضة ضد العناصر الأوروبية من القومية العربية. ولا توجد رابطة وطنية جوهرية للدول العربية تبرر بها وجودها. وكانت القوة الغاشمة، ولا تزال، هي الغراء الوحيد، على حد وصف الكاتب، الذي يربط العديد من هذه الدول معًا، وفي عام 2011، انفجر عدم الرضا بهذا الواقع. يقول جاكوب شابيرو: «كان الربيع العربي في نهاية المطاف أحد أعراض مشكلة أعمق. فقد كان هناك حدثان رئيسيان مهّدا لما يجري في العالم العربي اليوم: أولًا، تدمير نظام صدام حسين البعثي الذي شكّل ديكتاتورية قاسية لأسباب من بينها الفوضى الكامنة الواسعة التي كان يتوجب السيطرة عليها؛ وثانيًا، انهيار العروبة ومعها شرعية الديكتاتوريات العلمانية التي حكمت الشرق الأوسط بعد خروج البريطانيين والفرنسيين». كان نظام صدام حسين البعثي في العراق واحدًا من العديد من الديكتاتوريات العربية العلمانية التي تحالفت مع الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة. وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي، لم يكن أمام الولاياتالمتحدة أي منافس في المنطقة. في نهاية المطاف، رأت إدارة جورج دبليو بوش أن الوقت قد حان لتغيير النظام في بغداد. لكن فشل الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 في استبدال صدام حسين بقيادة تمتلك نفس قوته. افترضت الولاياتالمتحدة ببساطة أن العراقيين سيرحبون بجنودها كمحررين وأنهم ثوريون ديمقراطيون ليبراليون. وبدلًا من ذلك، أدى سقوط النظام البعثي إلى خلق فراغ في السلطة فيما يمكن أن يوصف بأهم بلد استراتيجي في المنطقة. وهذا ما أعطى تنظيم «داعش» المساحة اللازمة لشق طريقه والسيطرة على أراضٍ عدة. لم يكن صدام حسين هو الديكتاتور العربي الوحيد الذي ضعفت مكانته نتيجة انهيار الاتحاد السوفييتي. فقد بدأ العالم العربي كله في التراجع بعد قيام القوى الاستعمارية بتشريح الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى. لم تهتم الحدود في الشرق الأوسط بالحواجز الجغرافية أو الاختلافات العرقية والطائفية. وكانت نتيجة ذلك التقسيم المصطَنع، بحسب وصف شابيرو، صعود طغاة علمانيين في العالم العربي وتركيا وإيران. ورسم هؤلاء الطغاة طريقتهم في الحكم مستخدمين القومية جنبًا إلى جنب مع حكومة استبدادية. وهيمنت القومية العربية العلمانية على منطقة الشرق الأوسط العربي على مدى نصف قرن. واصطفت هذه الجمهوريات العربية، وخاصة سوريا ومصر، مع السوفييت أيضًا. ويستدرك شابيرو بقوله: «لكن لم تجلب الحركة القومية العربية السلام ولا الازدهار للمنطقة. كانت الأنظمة العربية العلمانية فاسدة وأعادت الثروة إلى المسؤولين العسكريين والحكوميين بدلًا من الشعب. وخسروا أيضًا الحروب ضد الإسرائيليين في عام 1948 و1967. وبحلول عام 2011، تشوّهت أي شرعية لمفهوم العروبة». وعندما بدأت الاحتجاجات في تونس، اعتقد الغرب أن العرب كانوا يتخلصون من نير الحكام المستبدين. لكن الغرب لم يفهم أن العرب كانوا يكرهون هؤلاء الديكتاتوريين؛ لأنهم على وجه التحديد رأوهم كدمى للغرب وليس لأنهم كانوا سلطويين، بحسب ما أفاد شابيرو. عدم جدوى ويرى جاكوب شابيرو أن الربيع العربي أثبت عدم جدواه. وبشكل عام، يرى جاكوب شابيرو أن الربيع العربي تمخض عن الوضع القائم أو فوضى؛ وهي نتائج بعيدة كل البعد عن ما كان يأمله الليبراليون الغربيون. إن حرب الولاياتالمتحدة في العراق وفقدان الثقة في أنظمة المنطقة خلق أزمة شرعية في جميع أنحاء المنطقة، بحسب شابيرو، منوهًا إلى أن هذه الأزمة أدت إلى صعود «داعش» وانتشار مختلف الميليشيات الدينية والعرقية في الوقت الذي دفعت فيه المتظاهرين إلى الشوارع في عام 2011. وتشهد المنطقة الآن، وفقًا ل شابيرو، فوضى أكثر مما كانت عليه في أي وقت مضى منذ انسحاب البريطانيين والفرنسيين بعد الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، يقول الباحث إن العالم العربي ليس الوحيد الذي يواجه أزمة، منوهًا إلى أن القرن المنصرم شهد تدهورًا لا يمكن إنكاره في الحضارة الإسلامية، حيث تعيش أفغانستان في حالة من الفوضى. ولم تتمكن باكستان من تضييق الخناق على المسلحين المتشددين إلا مؤخرًا. وكافحت إندونيسيا الحركات المتشددة منذ أوائل العقد الأول من الألفية الثانية، وشهدت جاكرتا هجومًا على صلة بتنظيم «داعش» مؤخرًا. ويستدرك جاكوب شابيرو بقوله: «لكن يسيء الغرب فهم هذا التدهور بشكل أساسي. وعندما يفكر الغرب في الإسلام، فإنه يفكر في العصر الذهبي للإسلام، وهي الفترة من 750 ميلاديًا إلى 1258 ميلاديًا، والتي شهدت ثقافة إسلامية متطورة، حيث تم اكتشاف الجبر والخوارزميات وكانت اللغات الأخرى تقترض الألفاظ من العربية». وبينما كانت أوروبا تغرق في العصور المظلمة، طرح الفلاسفة المسلمون الأسئلة ذاتها التي حاول الإغريق الإجابة عنها. وتأسس الأزهر، كأول جامعة في العالم، في مصر في 972. وتشير التقديرات في عام 1000م إلى أن أكثر من مليون شخص عاشوا في بغداد، عاصمة الخلافة العباسية. في الوقت نفسه تقريبًا، بلغ تعداد السكان في لندن وباريس حوالي 25 ألف شخص وربما عاش 35 ألفا في روما. ويتساءل الكاتب: كيف تردّت أوضاع العالم الإسلامي من هذا التقدم إلى الطائفية والعنف الذي يبدو بلا نهاية؟. إنه سؤال غير مستبَعد منطقيًا، يقول الكاتب، لكن قبل الرد عليه يجب التأكيد على أن هذا التدهور لا يقتصر على الحضارة الإسلامية فحسب، فالقوى العظمى تمضي بين الصعود والهبوط، وتحوي الحضارات في باطنها الجمال والوحشية على حد سواء. ويشير شابيرو إلى أن شكسبير كتب مسرحياته في نهاية القرن ال17؛ وهو القرن نفسه الذي كانت تقوم فيه أوروبا بحرق السحرة جماعيًا على خوازيق. يفترض الأوروبيون أن العصور الذهبية علمانية النشأة، لكن قبل 40 سنة من ولادة يوهان سيباستيان باخ، مزقت أوروبا نفسها في «حرب الثلاثين عاما» التي شهدت صراعًا دينيًا بين الكاثوليك والبروتستانت. كان من نتائج الثورة العلمية الغربية إنشاء واستخدام أسلحة بنفس نطاق وفعالية تلك التي يمتلكها العالم الغربي الآن لتدمير البشرية جمعاء. لم تسمح السفن القادرة على اجتياز محيطات العالم أن يكتشف الاوروبيون العالم الجديد فحسب، وإنما سمحت لهم بتدمير السكان الأصليين في العالم الجديد أيضًا. وقد أدت النزعة الإنسانية وإعادة اكتشاف الفلسفة في أوروبا جنبًا إلى جنب مع صعود الهوية الوطنية وتقرير المصير إلى غرف الغاز النازية. فحتى عندما تزدهر الحضارة، يسبقها العنف، ويستمر وجود هذا العنف حتى في أفضل الأوقات. سيناريوهات مستقبل العالم الإسلامي ووفقًا ل جاكوب شابيرو، يعرض الربيع العربي ثلاثة احتمالات لمستقبل العالم الإسلامي. الاحتمال الأول هو أن هذه هي الطبيعة الدورية للسلطة. كل إمبراطورية تنهار في نهاية المطاف، كما حدث للفرس والرومان والعباسيين والبريطانيين. وستتراجع الهيمنة الأمريكية يومًا ما. لقد صعد نجم العرب ثم العثمانيون في يوم من الأيام؛ وهكذا يحظى الأمريكيون بيومهم، وربما تنعكس الأدوار في غضون 500 سنة. الاحتمال الثاني هو أن العالم العربي يتأخر عن أوروبا في مواجهة القومية بحوالي 100 سنة. لقد وقعت العديد من الثورات القومية المهمة في أوروبا في عام 1848، وبحلول عام 1870، أُعلن قيام الإمبراطورية الألمانية. وخاضت أوروبا اثنتين من أعنف الحروب قاطبةً. ولم تحقق الدول القومية المختلفة في الشرق الأوسط استقلالها إلا بعد الحرب العالمية الثانية، وقامت العديد منها بخلع حكامها الاستعماريين في وقت لاحق. لم يؤد تقرير المصير الوطني إلى السلام أبدًا؛ بل كثيرًا ما أدى إلى الحرب، وساء الأمر باحتضان المجتمع للهوية الوطنية. خاضت أوروبا حروبها على تقرير المصير الوطني (وربما تخوضها مرة أخرى في يوم من الأيام). ويدخل الشرق الأوسط الآن في مرحلة مماثلة. الاحتمال الثالث والأخير هو أن السنوات الخمس الماضية قد غرست بذور التغيير التي من شأنها أن تنبت في العقود المقبلة. لنأخذ في الاعتبار أن الولاياتالمتحدة خاضت حربًا مع نفسها من 1861 إلى 1865 بعد تأسيسها بمائة عام تقريبًا. وأسفرت هذه الحرب الأهلية عن مقتل ما يقرب من 620 ألفا من الرجال أو 2 في المئة من إجمالي عدد سكان الولاياتالمتحدة في ذلك الوقت. وواجهت الولاياتالمتحدة تحديات أقل بكثير من العديد من دول الشرق الأوسط الحديث. ونظرًا لأن السكان الأمريكيين كانوا خاضعين بسهولة (وبشراسة)، بدأت الولاياتالمتحدة بسجل أبيض. وعلاوة على ذلك، تقيم الولاياتالمتحدة على مجموعة من أغنى الأراضي الزراعية في العالم بأسره وتحميها من الغزو الأجنبي المحيطات على الساحلين الشرقي والغربي. لكن حتى مع هذه المزايا، كانت الولاياتالمتحدة بحاجة ل100 عام من الصراعات الأهلية العنيفة المدمرة للعثور على الاستقرار الداخلي. يتدبر المتفائل هذه الحقيقة ويأمل أن يكون عام 2005 و 2011 هو اللبنة الأولى لإحراز بعض التقدم الأولي الذي يدفع دول الشرق الأوسط إلى الاستقرار والازدهار. لكن حتى المتفائل يعرف أنه حتى إذا أخذنا التاريخ دليلًا، فإننا سنواجه المزيد من الدماء والفوضى قبل أن يبدأ مثل هذا الاستقرار في الظهور. لقد خاض العالم الغربي عملية دامية وعنيفة من التنوير. ويمر العالم الإسلامي، الذي يشكّل اليوم مجتمعًا متنوعًا يضم أكثر من 1.6 مليار نسمة، بتحول دموي خاص به حيث يسعى من خلاله إلى إيجاد توازن بين الحداثة والعلمانية والإسلام. ومن المستحيل، برأي شابيرو، أن نعرف كيف يمكن للأجزاء المختلفة من العالم الإسلامي أن تجد مثل هذا التوازن وعما إذا كان الغرب سيتقبل ذلك. يقول جاكوب شابيرو: «دائمًا ما ينسى الغربيون أسوأ الأجزاء من تاريخهم ويرون أفضلها عند النظر إلى شؤون الحضارات والثقافات الأخرى. لكننا بحاجة إلى أن نتعلم من أوهامنا أن منطقة الشرق الأوسط تختلف عن ما يمكن توقعه». وأكّد شابيرو أن هناك شيئا ما حدث في المنطقة العربية من العالم الإسلامي في عام 2011، لكنه لم يكن المجيء الثاني ل «ربيع براغ». في الواقع، من السابق لأوانه أن نصف ما حدث بالضبط. وسيتوقف معنى ما حدث على ما سيحدث بينما يتابع أنماط من اللاعبين الإسلاميين المختلفين كفاحهم من أجل استعادة أسس المجد السابق للحضارة الإسلامية، وهي المعركة التي بدأت لتوها. تونس مهد الربيع العربي