لست مقتنعا قطعيا بالمغالاة في المديح بداعٍ أو دون داعٍ، ولكن تبقى فكرة عشق أهالي الأحساء استثنائية لمدينتهم، حتى بات التغني بها سمة من سماتهم، والترنم بخصائصها عادة لهم في كل مجلس وكل منتدى، فما بالنا إذا ما كان هذا التغني مُبررا، وله ما يُسَوِغه من الأدلة والبراهين، فليس عبثا أن تُسجل الأحساء ك (أول مدينة إبداعية خليجيا، وثالث مدينة عربيا)، ليس عبثا إلحاقها بقائمة منظمة اليونسكو للمدن الإبداعية العالمية. حين نقول منظمة اليونسكو فبالتأكيد نعني أهدافها السامية في خدمة البشرية في البرامج الخمسة الأساسية: التربية والتعليم، والعلوم الطبيعية، والعلوم الإنسانية والاجتماعية، والثقافة، والاتصالات والإعلام، وهذا كله يشمل فكرة مشروع المدن الإبداعية الذي ابتكرته هذه المنظمة، ويختص مشروعها هذا بسبعة مجالات إبداعية، هي (الحرف اليدوية والفنون الشعبية، والتصميم، والأفلام، وفن الطعام، والأدب، وفنون الإعلام والموسيقى)، وتضم القائمة حاليا سبعا وأربعين مدينة من ثلاثٍ وثلاثين دولة، كأعضاء جدد في شبكة المدن الإبداعية لليونسكو، أما التصنيف الذي حازته مدينة الأحساء في القائمة فكان عن مجالي (الحرف اليدوية والفنون الشعبية)، وبمبادرة تُذكر فتُشكر من أمانة المحافظة، حين أخذت على عاتقها التقدم بالملف ومتابعة الطلب، مع الحرص على وضع الخطط اللازمة لهذه المبادرة، وتوفير المسوغات التي من شأنها تبيان أحقية هذه المدينة بالدخول في القائمة، فشكلت فريق عمل متكامل، يضم نخبة من الاستشاريين والقياديين، وخبرات من القطاعين الحكومي والخاص، فكانت المبادرة وكان النجاح. هذا كله جميل ورائع، سنعده خطوة تسجل للأحساء وتاريخها وتراثها وفنونها ولتنميتها البشرية، لا خلاف على ذلك أبدا، لكنني سأناقش الموضوع من زاوية أخرى، ففي ظني أن الأمر لا يجب أن يتوقف عند حدود الاحتفاء والاحتفال والتغني بمثل هذا الانجاز، بل يجب أن يُحَمل الأحسائيين والجهات المعنية مسؤولية أكبر، في كيفية التعاطي مع هذه التسمية العالمية، وكيفية استثمارها الاستثمار الأمثل، فالجميع يعلم أن الحرف اليدوية الأحسائية متفردة في بعض مجالاتها، وفيها من الحرف التي قد لا تجدها إلا لدى أهالي الأحساء، والحكم ذاته ينطبق على الفنون الشعبية الأحسائية، بما تمتلكه من نكهة خاصة، نظير التصاقها بالمجتمع الأحسائي دون غيره، وأحسب أن هذا التفرد والتمايز الأحسائي هو الذي منحها فرصةً لتكون أولى خليجيا وثالثة عربيا ضمن هذه القائمة العالمية، وهو في الوقت نفسه ما يحملنا مسؤولية مضاعفة تجاهه، بعد أن بات توظيفنا للحرف اليدوية الشعبية رهين النمطية والتكرار والتسطيح، فلا أكثر من أكشاك توضع في كل مهرجان أو مناسبة ويصطف الحرفيون بشكل باهت أمامها، حتى إن الجماهير باتت تتوقع هذه النمطية في كل مناسبة، لهذا أقول إن إدراج الأحساء عالميا في هذين المجالين يحملنا مسؤولية الاشتغال على تطوير أشكال التسويق لهذه الحرف، ويدفع بنا للحرص على إخراجها من نمطية العرض العادية التي ألفناها، ويحفزنا على اغتنام الفرص لإظهار هذه الحرف في اُطر قادرة على التسويق لها مع المحافظة على أصالتها وهويتها وعمقها التاريخي. أما الفنون الشعبية الأحسائية فحدث ولا حرج، فالذي أعرفه أن ثمة أشكالا لا تؤدى إلا في مدينة الأحساء فقط، وهي تواجه خطر الانقراض لأن أغلب من يتقنها من كبار السن باتوا في عداد الموتى، وهنا يحضر دور التطوير والتأصيل في الوقت نفسه، ويتمثل أمامنا المعنى الحقيقي لفكرة استثمار أن تكون الأحساء على قائمة المدن الإبداعية، حتى لا يبقى اللقب لقبا شكليا، إنما يؤدي الغرض الحقيقي منه، فمن ذا الذي يُعلق الجرس؟، ويُطلق آفاق التطوير والتجديد لهذين المجالين الأصيلين للأحساء الأصيلة!! .