يدرك معظم الناس أن قيمة العدل كبيرة، وأثره عظيم في حياتهم، ويعرفون أن حاجتهم له ضرورية، حتى أصبح التمسك به أساسا لا يتطرق اليه شك أمة بعد أمة، فهو عنوان سعادتها، وسمة قوة دولهم وسيادتها، وسر أمنها واستقرارها وبقائها. إن العدل صفة من صفات الله، وميزانه في الارض، يؤخذ به للضعيف من القوي، وللمحق من المبطل، وللمظلوم من الظالم، فبه تصان الدماء والأنفس والأعراض والأموال والممتلكات، وبه تحفظ الحقوق والحريات والحرمات. وبالعدل يزجر أهل الفساد، ويعاقب أهل الظلم، ويقضى على الفساد، ويشاع الحق والأمن والاطمئنان، ويعم السلام والاستقرار، وينتشر الخير في كل أرجاء البلاد، وتبنى به البلدان وتزدهر وتتطور، وهو الأصل والأساس لوضع النظم والتشريعات الحاكمة وانتظامها لجميع أحوالهم في معاملاتهم وشؤون حياتهم. ولما كان العدل بهذه المنزلة شرفاً ورفعة واحتياجاً في حياة المجتمعات واستقرارها، وبناء الدول وازدهارها، كان هو أهم ما بعث الرسل به لتحقيقه بين الناس، في عبادة الخلق للخالق وفي إقامته بين الخلق، قال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط). إن العدل في نظر النظار من أهم الوظائف المنوطة بمنصب الرياسة والسياسة العليا للأمة، تحقيقا لمصالحها، ودرءا للمفاسد عنها، لنبذ كل ما من شأنه الإخلال بنظامها من الشقاق والنزاع والمخاصمة والمظالم، ولذا وردت النصوص القواطع في شريعة الإسلام آمرة بالعدل ملزمة به كما قال تعالى:(قل أمر ربي بالقسط)، وقال تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى)، قال عبدالله بن مسعود: أجمع آية في القرآن:(إن الله يأمر بالعدل والإحسان). وقال أبو حيان: "العدل فعل كل مفروض من عقائد وشرائع وسَيْر مع الناس في أداء الأمانات، وترك الظلم والإنصاف، وإعطاء الحق. لقد أمر الله بالعدل حتى ولو على النفس أو على الوالدين أو على الأقارب، وهذا هو أعلى مراتب العدل في الحكم، قال تعالى:(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين). كما وردت النصوص بالحض عليه والأمر به في مقام الحكم بين الناس خاصة لعظيم حاجتهم إليه، ولكون أحوالهم لا تستقيم إلا به. قال تعالي: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل). قال الشوكاني: هذه الآية من أمهات الآيات المشتملة على كثير من أحكام الشرع.. والعدل هو: فصل الحكومة على ما في كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا الحكم بالرأي المجرد، فإن ذلك ليس من الحق في شيء إلا إذا لم يوجد دليل تلك الحكومة في كتاب الله ولا في سنة رسوله فلا بأس باجتهاد الرأي من الحاكم الذي يعلم بحكم الله سبحانه وبما هو أقرب إلى الحق عند عدم وجود النص. ومما لا شك فيه أن الإمام أو القاضي العادل، يكون له قدر كبير في المجتمع، فيحب ويحترم ويهاب، والعدل يجعل صاحبه شجاعاً في كل شأن، فلا يخاف في الله لومة لائم، وهو في الآخرة موعود بأعظم الجزاء. إن من يقيم العدل يلزمه التجرد والحياد الكامل، فلا يتأثر بقرابة أو صداقة أو مصاهرة أو توصية أو وجاهة أو وساطة، ولا ينحاز إلى حزب أو تنظيم سياسي، ولا يجامل صاحب سلطة أو مسؤولية أو منصب وظيفي كبير. فهو يسعى مجتهداً لتحقيق العدل ابتغاء رضا الله والفوز بالجنة والنجاة من النار، فتلك غايته، فلا تجده يسوف في عمله ولا يماطل الخصوم في تقاضيهم ولا تصدر أوامره أو أحكامه عن جهل أو غضب أو ردود أفعال مرتجلة، بل عن مبادرات إيجابية مدروسة يحكمها منطق العدل والحق معاً باقتدار وكفاءة علمية وشرعية وقانونية وطبقاً لأصول اجراءات التقاضي. إننا أحوج ما نكون لإقامة العدل في كل شؤوننا العامة والخاصة رجاء الازدهار في الدنيا والفوز والنجاة في الآخرة. * الباحث والمستشار بمركز علوم القرآن والسنة