بخطرات الرحيل إلى مفازات الرشد، وعوالم التمني من جديد.. وهذا الشهيق الممزوج بنكهة الاطمئنان.. وهذا القلب المفعم بالحب حد الامتلاء.. لا احسب التعبيرات تقوى على أن تظهِر الفرح الكامن في بين فواصلها.. اعلم ان الحروف سوف تنزوي في أقصى الزوايا لتنصت لدق القلوب ونبضها بالحب.. فتشدو في شجن يستفز الروح في العمق.. حين تهمس بكلماتها اشعر ان الدنيا تنصت معي لصوتها الحنون.. وحين تمشي أمامي أخشى ان أطأ ظلها.. وتتراقص حولي نفحات السعادة.. فيسكن كل شيء لتتحرك هيَ.. وتبقى «أمي» انشودتي اليومية.. وحاجتي للعبادة.. ورغبتي في الطاعة الكريمة.. البر هو لغة الشاكرين.. وصمت الذاكرين.. وحديث المطمئنين.. وكلام المستقيمين.. لا يقبل النقاش ولا يقبل القسمة على اثنين ولا واحد ولا أي رقم.. البر يعرّف بالبر فقط.. هو موقف لا يشبه المواقف حينما تمتزج العبودية به.. والطاعة بخياره.. والالتزام بحذافيره. حين سمعت احدهم يسأل عن حكم التصدق على أمه «وليس زوجته» قلت في نفسي هي كاميرا خفية يمكن.. أو أحجية سخيفة.. أو حكاية خرافة.. فاختلطت كل الأمور في رأسي المثقل بالدهشة، والمنزعج بالاستغراب ككثيرين غيري.. لقد استفز هذا السؤال الكل وأولهم من خالطه العقوق.. فذلك أمر لم يكن ليقبل ويفوق كل طاقة لي على الاحتمال.. ما هذا الجهل.. ما ذاك الحمق؟ هل وصل بنا الأمر ان يعامل احدهم والدته خاصة بمقام امرأة فقيرة لا حيلة لها؟.. ألم يتساءل عن سبب وجوده؟ أليس إذا قدم أحدهم لنا خدمة تافهة نحمل له جميلا ووفاء؟.. هنا أحاكم الفكر، وليس الشخص فكل امرئٍ بما كسب رهين.. بر الوالدين هذه الطاعة التي يتفضل بها الله عز وجل على المرء ليفتح له باب اليأس والقنوط عندما يرضي والديه.. هذه العبادة التي قضى الله تعالى بأن تقترن بعبادته عز وجل.. لو شغل أحدنا عقله قليلا وليس كثيرا فلعلم أنه هو المحتاج إلى رضا والديه، وهو الفقير إلى عفو ربه.. ولو فكر بعضهم لما قلب مسألة البر لوالديه مسألة تأدية واجب او جميل أو وفاء عابر.. بل الكل محتاج إلى الدخول مع هذين البابين دوما ليوصلاه إلى رضا الله عز وجل فالجنة.. يرهقني ذلك التساؤل، وترهقني تلك الإجابات.. ترهقني هذه الحالة المؤلمة حين ترى بعضهم يمتدح بره بوالديه وأنه قدم لهما وعمل وفعل وصنع واشترى «ومريت عليهم وجلست بعد المغرب وتقهويت» وفي داخله يضغط فيخدع ضميره ليقول «سويت اللي عليك».. وهو يدرك ألاّ منة في ذلك فكله لوالديه والفضل لله ثم لهما.. يقتطع مبلغا من راتبه ويهبه لامرأته دون أمه.. لا يهاديها ولا يهديها.. طاقة تحمله لا وزن لها.. تشكّيه أكثر من ذكرهما بخير.. كلمتا «الشايب والعجوز» يرددها دوما ليجعل جلساءه يضحكون عليهما.. تجد أحدهم أمام والدته كأنه أمام أحد العمال أو احد الزملاء والجلساء أو حتى المارة في الشارع لا يستقيم حديثه معها ولا يخفض لها جناح الذل ولا يعطيها حقها يرد على كلمتها بكلمات وعلى أوامرها بالنفي.. لا يستحي ولا يخجل من كثرة الآهات والتأوهات.. متجهم عليهما منطلق مع «شلته» التي يجالسها ساعات ويمنّ بثوان عابرة يجلسها مع والديه.. ودود لزوجته.. مجادل وحانق على والدته.. يتكاثر طلباتهم أو يهملها.. يرد على اتصالاتهما ب«أفّات خشنة» خشية أن يقطعا عليه متعته مع «الشباب والعيال والجلسات» أو يقذف طلباتهما على احد إخوته متعذرا بانشغال.. لم يفهم أنه حين يطلب منه والداه شيئا فهي فرصة عظيمة له لا توازيها فرصة وحظ كبير لأنه المحتاج إليهما في الحقيقة.. ختام القول: واقع عابس لدى البعض وهم كثر.. حين ينتشي أحدهم بخدمة بسيطة قدمها لوالديه، ويترنم بها دهرا.. وهو يعلم أنه لن يسد برهما لو ذبح عمره.. البر.. بالذات بر الوالدين تركة نبيلة سوف تتوارث متعاقبة فكما تدين تدان.. وكلما انخفضت ذليلا ببر والديك وأكرمتهما بلغة كريمة وإجابة سليمة فأنت الرفيع المرتفع بمنة الله وفضله.. وكلما زدت من طاقة تحملك وتلمست حاجة والديك قبل ان ينطقا بها ووصلت إلى مستوى ان تفهم لغة عيونهما قبل ان يطلبا فإنك على الطريق الصحيح.. وكلما استطعت ان تعسف نفسك المتضخمة امام طلباتهما ومواقفهما وآرائهما فأنت على خير.. أما إن تعاملت مع قضية بر الوالدين كتأدية واجب وإرضاء للضمير وبثقافة «الفكّة» فستكون معلقا بالضيق ومشنوقا بالخسارة العظيمة دنيا وآخرة.. فأفٍ لكل من عقّ بوالديه..