يجري على المرء في حياته حالان، فهو إما في نعمةٍ يتقلَّبُ فيها، أو في ابتلاءٍ واختبارٍ يمتحنُه اللهُ به، وإذا تأمَّل الواحدُ منَّا في نفسه، فإنه سيجدُ أنَّه لا تمرُّ به لحظةٌ إلا وهو في حالةٍ من حالتين، ولِلَّه عليه في كلِّ حالةٍ منها عبوديَّةٌ خاصَّة، ففي حال إكرام الله العبدَ بالنِّعم، فالواجب عليه الشُّكر، وفي حال ابتلائه بنوع من البلاء، فالواجب عليه الصَّبر، فالنِّعَم تتفاوت، منها اليسير في أعين الناس، مثل أن يوفَّقَ أحدُنا في تجارةٍ بربحٍ يسير، ومن النِّعم ما هو أجلُّ وأعظم، مثل أن يُرزق بمولود، أو أن يُبارَك له في ماله، فيتضاعَف أضعافاً مضاعفة، ومن النِّعم ما يظهرُ فنراهُ ويراه الناس كذلك، غير أن من النِّعم ما تَحجُبُه غفلتنا، فيَخفَى على الكثير منَّا رغم شدَّة ظهوره، ولعلَّ أقرب مثالٍ لهذا سِتْرُ الله لنا، فكلُّ واحدٍ مِن الناس مَن يرى في هذه النِّعم إكراماً من الله له، وأن واجبه أن يَلهجَ بِشُكْرِ المنعِم، فيستحضر في قلبه عميم فضْلِ الله عليه، وينطق لسانُه بذكر الله وشكره منَّا إذا نظر في نفسه رأى أنه غارقٌ في كثير من العيوب، ومتلبِّسٌ بكثيرٍ من الذُّنوب، ثم إن الناسَ أمام هذه النعم منقسمون إلى فريقين، فمنهم مَن يَعْمَى عنها فلا يَشهدها، ولا يُقابلها بالشكر، فهَمُّهُ النظر إلى عيوب الخلق، ولسان حالِه وقالِهِ: الناسُ هَلْكَى والناسُ ظلَمَة والناسُ لا تَرحَم، وكأنه لم يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتَ الرَّجلَ يقول هَلَكَ الناسُ، فهو أَهْلَكُهُمْ) فما أبْأَسَ مَن يَحتقر الناس ويزدريهم، فيَرَى أنهم مذنبون وهَلْكَى، وكأنه خيرٌ منهم، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الناس في الجاهليَّة كانوا يُنزلون مصائبهم على الدهر، فيقولون «يا خيبةَ الدهر» وهذه غاية البطالة والجهالة، أنْ يُحمِّلَ المرءُ كَسَلَه وتقصيرَه على غيره، قال مسلم بن يَسار: «وكفى بالمسلم من الشَّرِّ أن يَرى أنه أفضلُ مِن أخيه» غير أن مِن الناس مَن يرى في هذه النِّعم إكراماً من الله له، وأن واجبه أن يَلهجَ بِشُكْرِ المنعِم، فيستحضر في قلبه عميم فضْلِ الله عليه، وينطق لسانُه بذكر الله وشكره، فمثلُ هذا سيكون في غاية السعادة، فهذا الشكرُ تَسعدُ به في الدنيا قبل أن تسعد به في الآخرة، فإن من سعادة الإنسان أنه إذا أسدَى إليه أحدٌ معروفاً، أنْ يسعى لردِّ الجميل، فيتوجَّه للمُسْدِي بالشُّكر، أي بإظهار الفرح بالمعروف، وهو ما نبَّه إليه الحديث الشريف: (مَن أسدى إليكم معروفا فكافئوه، فإنْ لم تجدوا فادعوا له) فكيف إذا كان المُعطِي هو الله، فالعطاء من الخَلق قد يكون حرماناً، فقد يرى البعضُ أن المخلوقَ هو المعطي، وقد جاء في وصية سيدنا عليٍّ كرم الله وجهه: «لا تجعل بينك وبين الله مُنعماً، وعُدَّ نعمةَ غيره عليك مَغرماً» فلَأنْ يصابَ المرءُ في بدنه خيرٌ من أنْ يُصابَ في دِينه، أما العطاءُ من الله، فهو بذاتِه إحسان، لأنه بعطائه سبحانه، يُشهِدُكَ الغِنَى به عن الناس، فقد قيل: «إنْ اعتززتَ بالله دامَ عزُّك، وإن اعتززتَ بغير الله فلا بقاء لعزِّك، إذْ لا بقاء لمن أنتَ به متعزِّز» قال تعالى: (أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا) ثم إنَّ عطاءَه سبحانه يُشهِدُك أيضاً بِرَّهُ وفضْلَه، ويزيدك فرحاً وتعلُّقاً بما عنده، فحقيقةُ الشكرِ فرحُ القلب بالمنعِم لأجْلِ نعمته (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ) (وقال أبو العباس المرسي رضي الله عنه «والله ما رأيت العزَّ إلا في رفع الهمَّة عن الخلق» أسأل الله أن يجبرَ صدْعَ قلوبنا بالإقبال عليه، وأن يَمُنَّ علينا بالخضوع بين يديه، وأن يحول بيننا وبين كلِّ مَا يحول بيننا وبينه.