(أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير* وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين).. نجد في هذه الآيات إشارة إلى سنة الله الحادثة في المكذبين ليقول للمسلمين: إن انتصار المشركين في هذه المعركة ليس هو السنة الثابتة إنما هو حادث عابر وراءه حكمة خاصة، وفي المقابل هي دعوة للصبر والاستعلاء بالإيمان فإن كان في إصابتهم جراح وآلام فقد أصيب المشركون مثلها في المعركة نفسها، وإنما هنا حكمة وراء ما وقع يكشف لهم عنها، وهي من أهم الحكم وهي تمييز الصفوف وتمحيص القلوب واتخاذ الشهداء الذين يموتون دون عقيدتهم. وقد وقف المسلمون أمام الموت وجها لوجه وقد كانوا يتمنونه لماذا؟ ليزنوا وعودهم وأمانيهم بميزان واقعي كما قال سيد قطب - رحمه الله - وفي النهاية محق الكافرين وذلك بإعداد الجماعة المسلمة المختارة والمنتقاة "وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين". والناظر بدقة في أحداث غزوة أحد يجد في الحقيقة أنها نصر لا هزيمة وهي في الواقع زاد ورصيد لتتعرف الأمة على مواضع ضعفها ونقصها ومداخل شهواتها لتحاول أن تصلح وضعها وتغربل أوراقها من جديد. ولقد ساق ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره عن عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه فأنزل الله قوله ( أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم) أي بأخذكم الفداء... وبسبب عصيانكم الرسول صلى الله عليه وسلم حين أمركم ألا تبرحوا مكانكم (يعني الرماة كما بينه الحسن البصري رحمه الله). كما نجد في السياق القرآني وقفات وعظات لأخذ العبر ممن كان قبلنا ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين). فالمسلمون لما أصابهم الفرح والقتل والهزيمة وأصيبوا في أرواحهم وأبدانهم وقتل منهم سبعون صحابيا وكسرت رباعية النبي صلى الله عيه وسلم وشج وجهه وأرهقه المشركون وأثخن أصحابه بالجراح .. كان لهذا أبلغ الأثر في هز النفوس بعد النصر في بدر حتى قالوا حين أصابهم ما أصابهم والدهشة ترتسم على وجوههم "أنى هذا" .. كيف تجري الأمور حولنا ! هنا يأتي القرآن الكريم وهو يرد المسلمين إلى سنة الله في الأرض التي لا تتخلف ويعلمهم أن الأمور لا تجري جزافا حتى إذا انكشف الأمر بانت الحقائق، وهو درس عظيم في استشراف خط السير على ما كان في ماضي الطريق. فليس كونهم مسلمين هو سبب لنيل النصر وبدون أخذ الأسباب التي تدعو للنصر وأهمها الامتثال لله ولرسوله. وفي المقابل لفتة للنظر في عاقبة المكذبين على مدار التاريخ ومداولة الأيام بين الناس والابتلاء لتمحيص السرائر وامتحان قوة الصبر على الشدائد وبعبارة أخرى ما في لغة العصر غربلة المجتمع وهي أعظم منحة وذلك لتربيته وتهيئته لما يأتي لها من مصائب، فتجربة لذة النصر يوم بدر لا تدعو للبطر والزهو بل هي بداية الطريق لتعرف الأمة وآحاد الناس أن قوتهم الذاتية تتلاشى. بمجرد أدنى انحراف عن منهج الله، وحتى تجرب مرارة الهزائم وتستعلي على الباطل بما عندها من الحق فهي أن تمرض فهي لا ولن تموت. والآيات فيها مغزى عظيم وهو( ليعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين). فالصبر هو بوابة النصر. فالصبر على تكاليف الدعوة هو المغزى الذي يشير اليه القرآن الكريم. فالجهاد في الميدان ربما كان أفق ولكن الصبر هو التجربة الصعبة والجهاد الحقيقي. فالذين اختارهم الله واختصهم إليه هم في الحقيقة كانوا أكثر صبراً. فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يمنح النصر لنبيه من اللحظة الأولى بلا كد ولا تعب ولا عناء .. ينزل الملائكة تدمر وتقتل. ولكن لا فالمسألة ليست هي نفس النصر ولكن هي إرادة الله في تربية المسلمين حتى يكونوا قادة البشرية. فقيادة البشرية تحتاج إلى جيل ملم بالسنن الإلهية مترب على العقيدة الصحيحة ومدرك لمسؤولية الطريق وعقباته لترتفع هذه الأمة إلى دورها المقدر لها أصلا. كما أن من أعظم المنح الخفية هي أن يتربى المجتمع والأمة على أن يكون مصدر تلقيها هو شرع الله الذي هو من أخص خصائص العبودية ومدلول ذلك أن تتلقى الأمة من الله وعن طريق رسولها الذي لا ينطق عن الهوى ولا يعتمد مصدرا آخر للتلقي. ومن الأمور التي هي من أخوف الأحوال على الدعوة هو أن يتسرب اليأس إلى أفرادها أو أن يصيبهم الوهن والضعف بسبب محنة أو ابتلاء. كيف يكون ذلك وقد تعرف المؤمنون على أخطائهم، ومحصت القلوب والسرائر؟ وكان الذي حدث من المصائب والحزن تقوية لقلوب المخلصين منهم، وبانت بوضوح قبائح أعدادهم أليست هذه منح لا محن؟ *محاضر بجامعة الملك فيصل بالاحساء [email protected]