عندما يمر بك ذكر الطائف وصيف الطائف تتذكر عدة أشياء محفوظة بالذاكرة عن عروس المصايف, فقبل أن تتذكر الورد, المطر, الجو العليل، جمال الطبيعة، الخضرة, فواكه الصيف، الجبال الشاهقة، الأودية العميقة، الآثار التاريخية،المعالم الحضارية قبل كل ذلك تتذكر الشعر وخاصة شعر المحاورة الذي يعشقه أهل الطائف الى درجة أنهم يعتبرونه ضرورة لاغنى عنها في أفراحهم ومناسباتهم السعيدة, وقد أدى ذلك الى أن تكون الطائف هي هاجس كل شاعر في فصل الصيف حيث يتوافد شعراء المحاورة على الطائف من جميع أنحاء المملكة ومن دول الخليج ويعتبرها كل شاعر نقطه انطلاق وأكاديمية تخرج الشعراء. ذلك كله لعدة أسباب أهمها أن جمهور الطائف جمهور بصير بمعاني المحاورة ويمكنه معرفة الشاعر الحقيقي من سواه بسهولة, والشاعر الذي يقره جمهور الطائف تقره كل جماهير المحاورة في أي مكان وزمان وهذا الكلام كان فيما سبق وقبل وقوفنا على الواقع صيف هذا العام. الوضع هذا العام مختلف كلياً والأمور منقلبة رأساً على عقب، حيث ابتعد الجمهور الواعي البصير الذواق عن ساحات المحاورة وبشكل مفاجيء وكأنهم يحتجون على تدني مستوى شعر المحاورة, وحل محل الجمهور الواعي جماهير من أصحاب التفكير المحدود والنظرة القريبة السطحية وأصبح ديدنهم (التصفيق لكل نعيق) والدليل أن شعراء الطائف هذا العام أغلبهم ممن ينطبق عليه مقولة (دفها والحقها) والغريب أن بعض هؤلاء المستشعرين يأتي بأبيات مكسورة ولايجد معارض وتمر سقطاته على الجمهور والشعراء بسلام دون أي معارضة حتى من الخصم, وقد حصل لي موقف جعلني أخرج من إحدى الحفلات دون أن أشعر من شدة القهر واعتقد بأن كل من لديه ذرة غيرة على الموروث سيفعل مافعلت وربما أكثر, حيث كنت بإحدى حفلات هذا الصيف وتواجد بها شاعر سمعت به قبل أن أراه وقد امتدحه الكثيرون وأشادوا به وأعتقد أنهم ظلموه بلقب شاعر وظلموا الشعر به. فجلست انتظر دور هذا النابغة وعندما قام فإذا هو شاب مقبول شكلياً بشكل كبير ويملك صوتا لابأس به ويجيد الألحان بشكل جميل وبدأ بموال صاح معه الجمهور صيحة مدوية مرددين عبارة (عيد ..عيد) فأعاد ومن ثم استمرت المحاورة, وإذا به يأتي بموال مكسور عياناً بياناً والجمهور يصيح (عيد .. عيد) فأعاد والكل سعداء بما يسمعون, ثم أتى ببيت الشيله على بحر يختلف عن البحر الذي بدأت به المحاورة فشال الصف وكأن شيئا لم يكن, وهنا خرجت دون أن أشعر حزناً على هذا الموروث وأنا أقول في نفسي (على ذائقة جمهور المحاوره السلام) ومن تلك الليلة لم أحضر محاورة وربما أصبت بعقدة بسبب ذلك النابغة الذي داس مع آخرين من شاكلته على شعر المحاورة. أما شعر النظم في صيف الطائف شعر النظم والأمسيات كانا في أجمل حال هذا العام فالأمسيات الرسمية والتي يشرف عليها قسم الشعر الشعبي بمحافظة الطائف برئاسة الاستاذ عبدالله الماضي الربيعان نائب محافظ مدينة الطائف واشراف الشاعرين محمد غازي الشيباني، وعبدالمحسن نوار وقد كانا شعلة من النشاط والحيوية, وقدما الكثير من التسهيلات للشعر واهله فقد شهدت هذه الأمسيات التي اقيمت في فندق مسرة تطوراً كبيراً هذا العام والسبب حرص الاخوان وحسن اختيار الشعراء ومضاعفة الجهود من قبل المسؤولين والمشرفين على تلك الامسيات, وقد أقيمت عدة أمسيات لشعراء متميزين وكانت ناجحة, وشهدت إقبالاً كبيراً وكان خير ختام امسية الشاعرين سعد بن جدلان ومحمد الدحيمي وقد حضرها جمهور كبير وكانت أمسية مختلفة بكل مافيها. الى جانب ذلك كانت أمسيات الهدا (مهرجان جبل جباجب) بالهدا نظم عدد من الامسيات لشعراء معروفين وشهدت اقبالاً كبيراً من المصطافين وجمهور الشعر بالتعاون مع الشاعر محمد غازي الشيباني والذي قام باختيار الشعراء المشاركين وكان اختياره موفقاً وكان التنظيم أكثر من رائع وقد حضر أسماء كبيرة في هذا المهرجان, ومايميزه هو أن للنساء نصيبا من الحضور حيث نقلت لهن الامسيات عبر الدائره التلفزيونية المغلقة. بالاضافة الى أمسيات الحوية التي اقيمت في مخيم المهرجان السياحي بالحوية حوالي خمس أمسيات لشعراء معروفين وكان الحضور جميلاً والتنظيم كذلك وقد شهدت أمسيات الحوية هي الأخرى نجاحاً كبيراً. يبقى الامسيات غير الرسمية (أمسيات الأعراس) فقد شهدت أمسيات النظم في الاعراس تطوراً كبير من حيث الإعداد للأمسية واختيار العريف المناسب واختيار الشعراء القادرين على امتاع الجمهور, وأصبحت الأمسيات ضرورة من ضروريات الفرح, وقد حضرت شخصياً عدداً من تلك الأمسيات وغيرت موقفي منها حيث كنت ضد أمسيات الاعراس لأن الزواج مناسبة يحضرها أناس قد لايرغبون في استماع الشعر وبذلك يكون مفروضا عليهم, وهي مجمع للكبار واللصغار لا يخلو من الضوضاء والصخب مما قد يشوه الأمسية, وقد حضرت أمسيات من هذا النوع العام الماضي فكان تنظيمها بدائياً ووضعها سيئا لكن هذا العام كان الوضع مختلفاً كلياً, فقد تغير الحال وأصبحت أمسية العرس ذات تنظيم راق والبعض يضع الأمسية في مكان مخصص في قاعة الاحتفال حيث لايذهب لها الا من يريد سماع الشعر. وقد سمعت بأن هناك من قام بإلغاء محاورة من حفل زواجه واستبدالها بأمسية نظم, وهذا دليل تقدم شعر النظم وتراجع شعر المحاورة. وقد دارت نقاشات بيني وبين بعض الشعراء والجمهور سأقدم لكم خلاصتها حيث كنت أناقشهم بعدم جدوى شعر النظم في الافراح ولكن يبدو أنني هزمت في تلك المناقشات التي تصل أحياناً الى درجة عالية من السخونة. خلاصة ما قالوه أن شعر النظم أكثر فائدة للمتلقي من شعر المحاورة لان النظم فيه النصيحة والقصائد الاجتماعية الهادفة والقصائد الوطنيه وغيرها, أي أن هناك تنوعا في الطرح وهذا يعود بالفائدة على المستمع بينما شعر المحاورة في هذه الايام لايستفاد منه نهائيا لأنه يقوم على السب والشتم والظلم ويحيي النعرات ويسبب الأحقاد وأحياناً يدعو الى الرذيلة عندما يهبط الى الوحل ويصل الى درجه يستحيي الرجل العاقل أن يسمعها عوضاً عن أن يقولها, وقد يؤدي ذلك الى مشاكل قبلية بسبب جهل ولامبالاة شعراء المحاورة بالاضافة الى المبالغ الباهظة التي يقدمها صاحب الحفل لشعراء المحاورة وصفوفها وهذا يثقل كاهل صاحب الحفل بينما شعراء النظم لايشترطون شيئا من المال وقد يحصل شاعر النظم على هدية رمزية مثل درع، أو بشت، أو ماشابهه وقد يحصل على مال لكن غير مشروط مع العلم أنني سمعت بأن بعض شعراء النظم يطلب مبلغاً محدداً ما مقابل اقامته لأمسية (عرس) وسمعت بأن هناك من حصل على ذلك وهذا يعني انه قد يكون فيما بعد مكافاة لشعراء الامسيات . أجمل مافي امسيات النظم في الاعراس انه لايقدم إلا الشاعر الجيد المتمكن أما الضعيف لا يقبل نهائيا ولايوجد مجاملة وهذا حسنة كبيرة, فشعراء الأمسيات المطلوبون دائماً شعراء يكتبون الشعر الجزل وأغلب مايطلب في أمسيات الاعراس القصائد الاجتماعيه الهادفة وقصائد النصح والوطنيات وبعضاً من الغزل العفيف وشعر الفكاهة وهناك أسماء أصبحت معروفة من خلال إقامتها لأمسيات الأفراح ومن خلال ماشاهدته هذا العام أتوقع أن يكون لشعر النظم وأمسيات الأعراس في العام القادم شأن كبير والله اعلم .. ولكن يبقى سؤال سأتركه للقراء والمهتمين ليجيبوا عليه وهو: هل كثرة أمسيات الاعراس ومطالبة الجمهور للشاعر بالجديد دائماً سيضعف من مستوى طرح الشاعر؟.