إذا انغلق الإنسان على رأيه، وأعرض عن الانفتاح على الآراء الأخرى، فإنه سيعزل نفسه عن تطورات الفكر والمعرفة، ويحرم نفسه من إدراك حقائق ومعارف مفيدة، وقد يكون رأيه الذي انطوى عليه خاطئا، فلا يكتشف بطلانه في ظل حالة الانكفاء والانغلاق. لقد ذم القرآن الكريم منهجية الانغلاق الفكري، من خلال إدانته لرفض المخالفين للأنبياء الاستماع والإصغاء لما يطرحه الأنبياء، لموقفهم المسبق من رسالاتهم. فهؤلاء قوم نبي الله نوح عليه السلام كانوا يرفضون مجرد السماع إلى دعوته، فإذا جاء لمخاطبة أحد منهم أمسك على أذنه بأصابعه، بل غطى وجهه عنه، حتى لا ينفذ إلى ذهنه شيء من كلامه، أو تتأثر نفسه بملامح شخصيته وإشاراته. حتى شكاهم نوح إلى ربه كما ينقل القرآن الكريم: ( وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوءتُهُمء لِتَغءفِرَ لَهُمء جَعَلُوا أَصَابِعَهُمء فِي آذَانِهِمء وَاسءتَغءشَوءا ثِيَابَهُمء وَأَصَرُّوا وَاسءتَكءبَرُوا اسءتِكءبَارًا ). وكفار قريش كانوا يظهرون أمام رسول الله صلى الله عليه وآله لا مبالاتهم بسماع دعوته، ورفضهم للنظر في شأنها، يقول تعالى: ( فَأَعءرَضَ أَكءثَرُهُمء فَهُمء لاَ يَسءمَعُونَ. وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدءعُونَا إِلَيءهِ وَفِي آذَانِنَا وَقءرٌ وَمِنء بَيءنِنَا وَبَيءنِكَ حِجَابٌ ). فهم يعلنون أن عقولهم مغلقة مؤصدة أمام دعوته، وسمعهم ثقيل لا يخترقه صوته، وبينهم وبينه مسافة وحاجز يمنعهم عن التفاعل معه. بل كانوا في بعض الأحيان يخلقون جوا من الفوضى والضجيج، حينما يبدأ الرسول صلى الله عليه وآله في تلاوة شيء من آيات القرآن الكريم، لئلا يسمع أحد تلاوته، ويتأثر بكلامه، وكانوا يطلبون من الناس ألا يصغوا لسماع آيات القرآن، وأن يقابلوها باللغو صياحا وتصفيرا وتصفيقا. يقول تعالى: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسءمَعُوا لِهَذَا الءقُرءآنِ وَالءغَوءا فِيهِ لَعَلَّكُمء تَغءلِبُونَ ). قال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وآله وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته، فكان أبو جهل وغيره يطردون الناس عنه، ويقولون لهم: لا تسمعوا له والغوا فيه فكانوا يأتون بالمكاء والصفير والصياح وإنشاد الشعر والأراجيز وما يحضرهم من الأقوال التي يصخبون بها. لماذا الانغلاق؟ لماذا يفرض الإنسان حصارا على عقله؟ ولماذا يرفض الانفتاح على الرأي الآخر؟ إن لذلك مبررات وأسبابا من أبرزها: الجهل والسذاجة، فمن يدرك قيمة المعرفة والعلم، ويتطلع إلى الحقيقة والصواب، يظل باحثا عن الحق، طامحا إلى الرأي الأفضل والأكمل. أما الجاهل الساذج فيعيش شعورا بالاكتفاء ويرى أن ما لديه من رأي يمثل الحقيقة المطلقة، والسقف الأعلى للمعرفة. وقد يكون الانغلاق منطلقا من حالة اللامبالاة تجاه القضية التي تتعدد حولها الآراء، وتكون مثارا لاختلاف الأفكار، فهو لا يجد نفسه معنيا بتكوين رأي أو اتخاذ موقف، فلماذا يشغل ذهنه بالتفكير والبحث والمقارنة. وقد يكون دافع الانغلاق الكسل عن البحث والتحقيق، لما قد يستلزمه الانفتاح على الرأي الآخر من إعمال الفكر والنظر، وبذل جهد في الدراسة والمقارنة بين الآراء والأفكار. وفي كثير من الأحيان يكون ضعف الثقة بالذات صارفا عن التعرف على الرأي الآخر، حيث لا يجد الإنسان نفسه مؤهلا للاستقلال بتكوين رأي أو اتخاذ موقف، ولا قادرا على التمييز بين الخطأ والصواب، فيترك هذا الدور للمؤهلين مكتفيا بدور التقليد والإتباع. وإذا كان ذلك صحيحا في الأمور التخصصية العلمية، فإنه لا يصح فيما عداها، و إلا لتوقف دور العقل، وانحصرت الاستفادة منه في حدود شريحة معينة. وقد يتهيب الإنسان مواجهة الحقيقة في مجال من المجالات، لما قد يترتب عليه من تغيير في أوضاعه ومواقفه، فيتهرب عن الاطلاع على الرأي الآخر، حين يكون غير واثق تماما من الرأي الذي يعتنقه، فيحرجه الانفتاح على الرأي الآخر، والذي قد يكشف له خطأ فكرته ورأيه. كل ما سبق يدخل ضمن عوامل الامتناع الذاتي عن الانفتاح على الرأي الآخر، وهناك عامل آخر يتمثل في وجود تشويش وإعلام مضاد للرأي الآخر، يخلق عزوفا عند المتأثرين به عن الاقتراب من ذلك الرأي. والإعلام المضاد سلاح يشهر دائما في الصراعات والخلافات، وخاصة ذات الطابع الفكري والثقافي، ويتوقع من الإنسان الواعي أن لا يقع تحت تأثير الدعاية والإعلام بين الأطراف المتنازعة، على حساب مرجعية العقل، والتفكير الموضوعي، فيتيح لنفسه فرصة الدراسة والبحث، ويعطي لعقله مجال الاطلاع المباشر على الآراء المختلف حولها. وفي عصرنا الحاضر ومع تطور وسائل الاتصالات المعلوماتية، وتعدد قنوات الإعلام، التي تتجاوز السدود والحدود، فإن محاولات محاصرة الرأي، تصبح جهدا ضائعا، وسعيا فاشلا.