ان الإسلام هو رسالة الإنسان كله وهو رسالته كذلك في كل مراحل حياته ووجوده، انها هداية الله تصحب الإنسان أنى اتجه وأنى سار في أطوار حياته، انها تصحبه طفلاً ويافعاً وشاباً وكهلا وشيخاً، وترسم له في كل هذه المراحل المتعاقبة المنهج الأمثل الذي يحبه الله ويرضاه. أحكام المولود فلا عجب أن تجد في الإسلام أحكاماً وتعاليماً تتعلق بالمولود منذ ساعة ميلاده، مثل إماطة الأذى عنه، والتأذين في أذنه، واختيار اسم حسن له، وذبح عقيقة عنه شكراً لله، وغير ذلك مما ضمنه الإمام ابن القيم كتاباً مستقلاً له سماه ( تحفة المودود في أحكام المولود). الرضاع ونجد أحكاماً تتعلق بإرضاع الرضيع ومدته وفصاله وفطامه، ومن يرضعه وعلى من تكون نفقة المرضعة وأجرتها، خصوصاً عند الطلاق وانفصال الأم عن الأب، فهنا نزل القرآن الكريم موضحاً ومفصلاً كل ذلك.. يقول الله عز وجل:( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين، لمن أراد أن يتم الرضاعة، وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف، لا تكلف نفس إلا وسعها، لا تضار والدة بولدها، ولا مولود له بوالده، وعلى الوارث مثل ذلك، فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما، وان أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيم بالمعروف، واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير). الإنسان والجنين وبعد ذلك نجد أحكاماً تتعلق بالإنسان صبياً وشاباً وكهلاً وشيخاً، فلا توجد مرحلة من حياته إلا وللإسلام أحكامه فيها توجيه وتشريع. وأكثر من ذلك أنها تعنى بالإنسان قبل أن يولد وبالإنسان بعد أن يموت. ولا غرو أن وجدنا في الإسلام أحكاماً تتعلق بالجنين، من حيث وجوب حمايته، والحرص على حياته، واستمرار غذائه بمقدار كاف، ولهذا حرم الشرع الإجهاض، وقدر دية محددة تجب على من تسبب في إسقاط الجنين، وشرع للحامل أن تفطر في رمضان ان خافت على جنينها أن يقل غذاؤه، وتتأثر صحته إلى غير ذلك من الأحكام التي تتعلق بالحمل وميراثه وبالحامل ونفقتها مدة الحمل وان كانت مطلقة: ( وان كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن). كما وجدنا في الإسلام أحكاماً أخرى تتعلق بالإنسان بعد موته من وجوب تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، ودفنه بكيفية خاصة، ومن شرعية التعزية فيه، والدعاء له وتنفيذ وصاياه، وقضاء ديونه التي للعباد أو لله تعالى، وغير ذلك مما يشمله كتاب الجنائز وغيره في الفقه الإسلامي. فالإسلام رسالة لجميع الناس وهداية للخلق جميعاً في كل مجالات الحياة وفي كل ميادين النشاط البشري، فلا يدع جانبا من جوانب الحياة الإنسانية إلا كان له فيها موقف، وقد يتمثل في الإقرار والتأييد أو في التصحيح والتعديل، أو في الإتمام والتكميل أو في التغيير والتبديل، وقد يتدخل بالإرشاد والتوجيه، أو بالتشريع والتقنين، وقد يسلك سبيل الموعظة الحسنة، وقد يتخذ أسلوب العقوبة الرادعة كل في موضعه. المهم هنا: ( أنه لا يدع الإنسان وحده- بدون هداية الله عز وجل- في أي طريق يسلكه، وفي أي نشاط يقوم به: مادياً كان، أو روحياً، فردياً أو اجتماعياً، فكرياً أو عملياً دينياً أو سياسياً، اقتصادياً أو أخلاقياً). حسن التربية للأبناء ومن هذا الشمول ما يتعلق بموضوع بحثنا وهي الأحكام والتعاليم المختصة بتربية الأولاد فلم تدع نصوص القرآن والسنة مجالاً من مجالات التربية إلا ووضعت لنا فيه منهجاً واضحاً نسير عليه لنهتدي في أمور الدنيا والآخرة. فالأولاد قرة عين الإنسان في حياته وبهجته في عمره وأنسه في عيشه، بهم تحلو الحياة وعليهم تعلق الآمال، وببركتهم يستجلب الرزق وتتنزل الرحمة ويضاعف الأجر، بيد أن هذا كله منوط بحسن تربية الأولاد، وتنشئتهم النشأة الصالحة التي تجعل منهم عناصر خير، وعوامل بر، ومصادر سعادة، فان توافر للإنسان في أولاده هذا كله كانوا بحق زينة الحياة الدنيا، كما وصفهم الله عز وجل بقوله ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا). ولهذا كان من دعوات النبي صلى الله عليه وسلم لمن يحب، الإكثار في المال والولد. فقد روى أنس رضي الله عنه أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أمه وخالته فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم دعا لهم بكل خير، فقالت أم أنس: يا رسول الله خويدمك، أدع الله له، فدعا له بكل خير وقال في آخر دعائه: ( اللهم أكثر ماله وولده وبارك له) وهم الصدقة الجارية الباقية دون انقطاع بعد موت الإنسان لقوله صلى الله عليه وسلم: (( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث وذكر منها ولد صالح يدعو له...)). أما إذا غفل الوالدان عن تربية الأولاد وتوجيههم الوجهة الصحيحة الصالحة كانوا بلاء ونكدا وغماً وشقاء وهماً واصباً، وراءه السهر بالليل والتعب بالنهار. والمسلم الحق يدرك مسئوليته الكبرى إزاء أولاده الذين أنجبهم وقدمهم للحياة. إذا سمع صوت القرآن يهتف به: ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة). وإذ يسمع صوت النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يضعه أمام مسئوليته الكبرى في الحياة: ( كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) ولا يخفى كم لهذه المسؤولية من تبعات كبرى ملقاة على عاتق كل من يوجه هذه الناشئة ويقوم بشؤونها لتقوم بدورها المطلوب في العبادة والعمارة. وسائل للتربية وهناك وسائل عديدة للتربية وإصلاح الناشئة ولكني أوجز بذكر أهم وسيلتين يقوم بهما الأب أو تقوم بها الأم في تربية أولادهما:- أولاً: التعليم: فقد أثبتت الإحصائيات أن 90% من العملية التربوية تتم في السنوات الخمس الأولى، كما أن الطفل في هذه الفترة يميل إلى إرضاء والده، ويحاول أن يخرج منه عبارات الثناء والإعجاب. ولذلك كان من البديهي أن يستغل الأب هذه الفترة الهامة في تعليم وتوجيه أولاده الصغار. يقول ابن الجوزي رحمه الله: ( أقوم التقويم ما كان في الصغر، فأما إذا ترك الولد وطبعه، فنشأ عليه ومرن كان رده صعباً. قال الشاعر: ==1== ان الغصون إذا قومتها اعتدلت ==0== ==0==ين إذا قومته الخشب قد ينفع الأدب الأحداث في مهد ==0== ==0==ينفع في ذي الشيبة الأدب ==2== ولذلك وجب على الأب أو الأم تعلم أصول الدين وأركان الواجبات وقواعد الشريعة ومبادئ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر حتى يكونوا معلمين لأولادهم هذه الركائز، وإذا أهمل هذا الأمر قامت التربية على أساس خاطئ وكانت أقرب صلة إلى الانحراف والجنوح. فالطفل في صغره لا يعرف ولا يميز بين الصالح والطالح والخير والشر، إنما لديه رغبة يحس بها في نفسه تدفعه إلى طاعة من يوجهه ويرشده فيعيش تحت سلطته وإمارته، فأن لم يجد هذه السلطة الموجهة الضابطة لتصرفاته والموجهة لها فأنه ينشأ قلقاً حائراً ضعيف الإرادة والشخصية، لهذا فإن دور التربية والتعليم المبكر له أهميته في استقامة شخصية الطفل وتحقيق التوافق النفسي عنده. التعليم بالقدوة فنجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمارس هذا الدور التعليمي بشكل عملي وهو القدوة لنا في ذلك، فقد روى مرة أنه رأى غلاما لا يحسن سلخ الشاة فقال له : (تنح حتى أريك، فأدخل يده بين الجلد واللحم فدحس بها حتى توارت إلى الإبط ثم مضى) وهناك أساليب للتعلم كثيرة ينبغي أن يطرحها الأب مع ابنه. مثال ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ما رواه أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا وكان لي أخ يقال له : أبو عمير وهو فطيم، كان إذا جاء قال: (يا أبا عمير ما فعل النغير والنغير كان يلعب به وربما حضرت الصلاة وهو في بيتنا فيأمرنا بالبساط الذي تحته فيكنس ثم ينفخ فيقوم ونقوم خلفه فيصلي بنا) . فمن الفوائد التربوية في هذا الحديث: 1 أنه صلى الله عليه وسلم استقطع وقتا لمداعبة الأطفال . 2 استخدام أسلوب التكني وهذا الأسلوب يشعر أهله بأنهم أصبحوا في مصاف الرجال. 3 الجملة التي قالها عليه الصلاة والسلام (يا أبا عمير ما فعل النغير) فيها فوائد، إنها قصيرة، سهلة الحفظ، فواصلها محببة مناسبة لنفس الطفل. 4 تنظيف البساط يدل على الترتيب العملي لاكتساب مهارة النظافة إيمانيا وسلوكيا . 5 نزول الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمستوى العقلي للطفل مما يثمر التفاعل . 6 صلاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في البيت تغرس مفهوم القدوة في العبادة . فالشاهد أن التعليم له أهميته بالبالغة في الصغر، وإهمال ذلك ينتج عنه آثار وخيمة للطفل والأسرة . ومن الأساليب التعليمية المفيدة التي استخدمها النبي صلى الله عليه وسلم - مع الصبيان قوله لابن عباس: (يا غلام إني معلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك وإذا سألت فلتسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله وأعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف). ومن الفوائد التعليمية في هذا الحديث: حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - مع كثرة أعماله وانشغاله أن يخص الصغار بنصائح عظيمة، كذلك حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن تكون كلماته قليلة لتحفظ ويعمل بها وهذا هو المناسب لمرحلتهم العمرية والفكرية، ثم نرى في نصيحته جوامع كلم فيها خير الدنيا والآخرة . ثانيا:ً التأديب : يعترف المربون المسلمون بأهمية العقاب ويقرونه وذلك لما له من دور في تعديل سلوك الولد وتوجيهه على أن يستخدم عند الحاجة إليه مع مراعاة الناحية العمرية للولد ونوع العقوبة المستعملة ومقدارها الذي يثمر تربية نافعة للولد ولا تنتج عنه آثار سلبية . والضرب نوع من أنواع العقوبة وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - (رأى أبا بكر رضي الله عنه وهو يضرب غلاماً ولم ينكر عليه) لكن ينبغي أن يكون الضرب آخر العلاج لأن الولد إذا تعود عليه وألفه عند كل خطأ فيه فانه لن يصبح له تأثير فيه بعد ذلك . وفي استحباب التدرج في العقوبة فضل ونفع كبير وأثر تربوي صالح فيندب أن يبدأ في إصلاح خطأ الولد بالإعراض عنه والعبوس في وجهه ومنعه من محبوباته، وهكذا . وقد يكون التهديد بالضرب أنفع من الضرب وتحقيقا لمقصد التأديب كما ورد (أنه صلى الله عليه وسلم أمر بتعليق السوط في البيت) وقد اختلف التربويون في السن التي يعاقب عليها الطفل وذهب بعضهم إلى أنه لا تكون قبل العاشرة قياسا على الصلاة وهي من المأمورات . وقد حرص الصالحون والمربون والعلماء والخلفاء والسلاطين مع كثرة أعمالهم وعظيم مسؤولياتهم على تنشئة أولادهم على الأدب فكان كثيراً منهم يعهد بأبنائه إلى مرب يهتم بهم . يقول الذهبي رحمه الله: (كان المأمون قد وكل الفراء ولديه يلقنهما النحو، فاراد القيام فابتدرا على نعله فقدم كل واحدة فردة، فبلغ ذلك المأمون فقال: ( لن يكبر الرجل عن تواضعه لسلطانه وأبيه ومعلمه) . وقال عبد الملك بن مروان (علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن واحملهم على الأخلاق الجميلة وروي لهم الشعر ليشجعوا وينجدوا وجالس بهم أشراف الناس وأهل العلم منهم، فأنهم أحسن الناس ورعا وأفرادهم أدبا، وجنبهم السفلة والخدم فأنهم أسوأ الناس ورعا وأسوأهم أدبا، ومرهم فليستاكوا عرضا وليمصوا الماء مصا ولا يعبوه عبا، وقرهم في العلانية وذلهم في السر، وأضربهم على الكذب، ان الكذب يدعو الى الفجور، والفجور يدعو الى النار، وجنبهم شتم اعراض الناس فإن الحر لا يجد من عرضه عوضا . وإذا ولو أمرا فامنعهم من حرب الناس فإنه عار باق وثأر مطلوب، واحملهم على صلة الأرحام، وأعلم أن الأدب أولى بالغلام من النسب . وهنا سؤال قد يثور في ذهن الوالد عن دوره في التربية مع كثرة أعماله وضيق وقته، كما هو حال كثير من الآباء أو الأمهات في عصرنا الحاضر، وهل يمكن أن نجد مؤدبين في عصرنا هذا ؟ وللإجابة عن هذا السؤال نقول: يمكن ذلك عن طريق معلم للقرآن، أو أستاذ صالح في مكتبة مسجد أو معلم رباني أفرغه ساعات في اليوم لتعليم الأبناء وتأديبهم ولو بأجر باهظ، لأننا قد ننفق من الأموال الكثير على إصلاح البيوت والأثاث والسيارات ونبخل بالإنفاق في إصلاح أبنائنا وبناتنا وهم أكبادنا تمشي على الأرض . وكان السلف لحرصهم على التأديب يرسلون أبناءهم للعلماء ليتعلموا من أدبهم قبل علمهم ومن ذلك ما قاله حبيب بن الشهيد لابنه : (يا بني ! اصحب الفقهاء والعلماء وتعلم منهم وخذ من أدبهم ، فإن ذلك أحب إلي من كثير من الحديث ) . وقال الإمام مالك: (كانت أمي تعلمني وتقول لي اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه) . وحلقة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله كان يحضرها أكثر من خمسة آلاف كان ممن يكتب الحديث فيها خمسمائة فقط والبقية يحضرون ليتعلموا من هديه وسمته وخلقه . هذه جمل يسيرة أضعها بيد يدي القارئ ليدرك بشكل واضح أهمية الأمانة الملقاة على عاتقه وعظم الدور المنوط به تجاه أولاده فهم بحق زينة الحياة الدنيا إذا قام بهذا الواجب السهل الممتنع .