قد لا تجد ما هو أشد تعقيداً وأكثر صعوبة من تبني موقف شخصي واضح ومحدد تجاه الوضع في العراق وتبدلاته وتحولاته المحتملة في المستقبل القريب والبعيد. الوضع في العراق، أو بتعبير أكثر دقة، المشكلة العراقية بالغة التعقيد والشائكية، والمشكلة الأكبر أن تلك الخاصية تلقي بظلالها وتأثيرها على محاولتك اتخاذ موقف شخصي منها لتصبح بدورها، أي المحاولة، شائكة ومعقدة لدرجة تفقدك طمأنينتك وتسلمك للحيرة والتذبذب بين موقف ونقيضه. وصلت إلى بغداد يوم الاثنين الماضي طلائع فرق مفتشي الأممالمتحدة بعد غياب دام قرابة أربع سنوات. عاد المفتشون كما هو معروف بعد قبول العراق قرار مجلس الأمن 1441 الذي يقضي بتجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل. أن قبول العراق للقرار حدث جعل المنطقة العربية بنحو خاص تفلت أنفاسها التي حبستها توجساً وخوفاً من أن يرتكب صدام حسين حماقة أخرى برفضه القرار فيدفع بالعراق شعباً وأرضاً وبمنطقة الخليج في هاوية جديدة. القبول العراقي للقرار والالتزام الكامل بتنفيذه يبعثان على الارتياح لأنهما يبعدان ما كان إندلاعاً مؤكداً لحرب ثالثة في المنطقة. لكن ما أن تتذكر أن ذلك يعني في التحليل الأخير بقاء صدام حسين على كرسي الحكم حتى يبدأ ارتياحك في التبدد والتلاشي، فصدام حسين شخص غير مرغوب في داخل العراق وخارجه، وتجريده من أسلحته لا يضمن أنه لن يعيد بناء ترسانة أسلحة جديدة، أو يشن حرباً أخرى على إحدى الدول المجاورة. لابد إذا من ذهاب صدام حسين واختفائه نهائياً. تتمنى هذا وتفكر فيه طويلاً وأنت تعلم علم اليقين أن ذهاب صدام لن يضمن لك الطمأنينة وراحة البال اللتين تتسربان من داخلك كلما تتذكر العراق لأنك تعرف أن ذهابه لن يكون إلا بالطريقة الأمريكية وهو الشيء الذي تكره حتى مجرد التفكير فيه ولا تعتقد أن بغداد سوف تمد ذراعيها مرحبة بقائد جديد، أو رئيس جديد، يدخلها على ظهر دبابة إبرامز. وتتضاعف قوة تشبثك بهذا الموقف إذا ما تذكرت الخطر الذي يهدد وحدة التراب العراقي بالتفتت والانهيار بانقسامه على طول خطوط عرقية وطائفية والسيطرة الأمريكية الحتمية على ثروات العراق وموارده الاقتصادية. يتبدد قلقك وتهبط على قلبك السكينة والطمأنينة بعد أن صرحت لنفسك عن رفضك القاطع للتدخل الأمريكي في العراق حتى ولو من أجل إسقاط نظام صدام حسين. لكن سرعان ما تغادرك الطمأنينة عندما تفيق على حقيقة أنك عندما تفكر بوحدة التراب العراقي وتبدي الخوف من انقسامه والاستغلال الأمريكي لثرواته، تنسى الإنسان العراقي المتضرر الأول والأخير من استمرار صدام سيداً متسيداً على البلاد والعباد. هل التراب ووحدته أغلى من الإنسان؟ من يأتي أولاً الإنسان أو التراب؟ سؤالان تطرحهما على نفسك لتتورط في البحث عن إجابة تعينك على بلورة موقف جديد لا تكاد تستقر وتطمئن إليه حتى تنتقل إلى موقف آخر. ما يحدث في العراق غير عادي وينتقل إليك قليل من " غير عاديته" عندما تفكر فيه فتفقد طمأنينتك واستقرارك الذهني والنفسي بسبب أنك لا تجد ما هو أشد تعقيداً وصعوبة من اتخاذ موقف شخصي محدد تجاه ما يحدث في العراق. ان من مصلحة العراق ان يفتش الفريق الدولي عن اسلحته النووية والجرثومية وسواهما، فاذا كانت المزاعم صحيحة بوجود أسلحة دمار شامل لدى العراق، او كان العكس هو الصحيح، فالمهم أولا وأخيرا هو تجنيب المنطقة من ويلات الخوض في حرب جديدة قد لاتبقي ولاتذر. كل عربي من محيط العالم العربي الى خليجه يتمنى ان ينأى العراق عن الدخول في دائرة حرب جديدة، فسلبياتها وخيمة ليس على سلامة وأمن واستقرار دول المنطقة فحسب، بل على عملية السلام برمتها، فالدول العربية تواجه تسلطا شرسا من اسرائيل على مقدراتها ومستقبل ابنائها وتطلعاتها نحو صناعة استقرار شامل تتمكن بمقتضاه من بناء ذاتها في اجواء مفعمة بالطمأنينة والأمن والهدوء. هذه الاحلام المشروعة التي يتوق العرب الى تحقيقها سوف تصاب بخدش كبير بطبيعة الحال ان فكر العراق بالعودة الى اساليبه القديمه والعقيمة بمواجهة المجتمع الدولي وتحديه، فالظروف غير مهيأة على الاطلاق لمثل هذه المواجهة، وقد أحسن العرب جميعا حينما نصحوا العراق بالامتثال لصوت العقل، فهل يبقى هذا الامتثال قائما؟!