مات شاب في أوائل عمره, بكت عليه أمه, وقفت عند قبره, تسكب العبرات, لفراق فلذة كبدها, وقرة عينها, فارقها وهو في زهرة شبابه, وقوة جسده, ونضارة وجهه, فمر عليها نبي من الأنبياء - كذا يروى - فقال لها: ما يبكيك يا أمة الله؟ فقالت: أبكي على ولدي, دفنته هنا, قال النبي : كم عمره ؟ قالت: مائتا عام, فقال لها مواسياً: كيف لو أدركتِ أمة أعمارها من الستين إلى السبعين ؟ قالت : لو أدركت هذه الأمة لأمضيتها في سجدة واحدة. نعم أعمارنا وعمر نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) قصيرة مات عليه الصلاة والسلام وكان عمره ثلاثا وستين سنة, وكذا أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم ومنهم أقل وأكثر من الصحابة, ولا تجد أحداً من أمتنا بلغ عقداً بعد قرن إلا نادراً. وإن حدثك شيخ كبير بأن عمره وصل إلى المائة والعشرين أو الثلاثين فإنه لم يضبط عمره بدقة، فقد جلست مع كبار السن في مناطق مختلفة من المملكة للاستفادة منهم وسألت بعضهم عن عمره فقال لي: يا ابني لقد تجاوزت المائة ، حيث قد أصل إلى العشرين بعد المائة , ثم أخذت معه في الحديث عن وقائع وأحداث للملك عبد العزيز رحمه الله تعالى فأجاب قائلاً : لا أذكر الواقعة ولا أعيها , واتضح لي أنه في بحر التسعينيات, إذ الملاحظ على كبار السن الذين تجاوزوا التسعين أنهم يحبون أن تزيد أعمارهم والضابط لهم الوقائع والأحداث, وإن وصل أحد إلى هذا العمر فنادرا, والشاهد والحاصل أنه مهما بلغ الإنسان في عمره فهو قصير لمن قبله من الأمم. أخي القارىء: أنت تودع عاماً وتستقبل عاماً جديداً , تودع ثلاثمائة وستين يوماً, وتستقبل ثلاثمائة وستين يوماً مقبلات. فأنت مجموعة أيام إذا قضي يوم من حياتك ذهب بعضك, كل يوم يذهب وشهر ينصرم, وعام يمضي يقربك إلى الموت والوقوف والمساءلة. قال الفضيل بن عياض لرجل: كم أتت عليك ؟ قال : ستون سنة, قال : فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ, فقال الرجل : «إنا لله وإنا إليه راجعون» , فقال الفضيل : أتعرف تفسيره تقول: «إنا لله وإنا إليه راجعون» فمن عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع فليعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف, فليعلم أنه مسؤول , ومن علم أنه مسؤول فليعد للسؤال جوابا , فقال الرجل : فما الحيلة ؟ قال : يسيرة , قال ما هي ؟ قال : تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى , فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وما بقي .. انتهى. أسأل الله أن يرحمنا رحمة واسعة. تأمل نهاية العام في شهر محرم , وبدايته في شهر محرم , ووسطه في شهر محرم , فاجتهد في الطاعات في جميع الأشهر وأكثر من العبادات والقربات في الأشهر الحرم , فإن الطاعة والتوبة فيهما مزية وفضل عند الله تعالى, والمعصية مغلظة فيهن قال تعالى : ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) .. التوبة «36». ومن حاسب نفسه في العاجلة أمن في الآخرة , ومن ضحك في الدنيا كثيراً ولم يبك إلا قليلاً يخشى عليه أن يبكي يوم القيامة كثيراً ، كما قال تعالى: ( فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً ) .. التوبة «82». قال ابن عباس رضي الله عنهما : (الدنيا قليل فليضحكوا فيها ما شاؤوا فإذا انقطعت وصاروا إلى الله تعالى استأنفوا في بكاء لا ينقطع عنهم أبداً ) .. أخرجه لابن جرير وابن أبي شيبة بإسناد صحيح. تنبيه : يلاحظ على بعض الأخوة في الرسائل المتبادلة عبر الجوالات في نهاية العام قول الآتي: اختم عامك بصيام أو بالاستغفار وهذا لا أصل له في الشرع, أو قولهم: تطوى الصحائف بنهاية العام والصحائف لا تطوى إلا بموت الإنسان وتنشر يوم القيامة. اسأل الله أن يجعل عامنا الجديد مليئا بالفرح والمسرات والنصر على الأعداء.