يقطع المواطن فواز الضويحي 350 كيلومتراً آتياً من مدينته سكاكا، إلى القريات وتحديداً إلى قرية عين الحواس ليتداوى بإحدى عيونها الكبريتية. فمياه تلك العيون تعتبر دواء لكثير من الأمراض الجلدية كالصدفية والأكزيما، بحسب ما يؤكد أطباء الجلد، وكذلك مختصون أجروا اختباراً لتلك المياه وتبين أنها كبريتية 100% وفوائدها كبيرة ولا يقل شأنها عن شأن مياه المنتجعات الصحية في كثير من الدول كروسيا والتشيك والأردن. لكن الضويحي كسواه من قاصدي تلك العيون من مدن المملكة وبعض الدول الخليجية، يلفته عدم اهتمام المعنيين بتطويرها وتنظيمها والمحافظة على نظافتها واستثمارها اقتصادياً بدلاً من إهمالها لتتحول إلى مكان ترمى فيه النفايات وترتع فيه الحيوانات. ويقول الضويحي إنه في يوم من الأيام كان عائداً من الأردن وقرر المرور بتلك العيون فصادف عائلة كويتية قصدت المكان للغاية نفسها "لكنني لم أستطع إخفاء خجلي من المشهد غير الحضاري أمام أشقائنا الخليجيين". حوار الريح والرمل والإهمال الذي أصاب العيون الكبريتية وكذلك آبار الملح التي كانت قديما تصدر الملح لبلاد الشام والعراق على ظهور الجمال، يكاد يكون سببه الأول هو خلو قرى القريات من سكانها وهي: إثره، كاف، عين الحواس، منوة، القرقر. لكن الحكايات التي تختزنها تلك القرى الواقعة على الطريق الدولية التي تربط المملكة ودول الخليج العربي ببلاد الشام، تبدو أوسع من المكان، رغم أن هذه القرى تستقبلك بصمت مخيف ونظرة عتب على هجرها ولا تجد ما تستنطقه سوى نقوش ورسائل كتبت على بعض الجدران. ولا يصلك من بوحها سوى صوت لحوار الريح مع الرمل، وصور لمبان مشوهة ابتعدت عن ساعات الحياة والمدن المنظمة جيداً، بعدما غفت عنها الأعين هي وما جاورها من أماكن وعيون كبريتية وآبار الملح وحتى المقابر لم تسلم وأكوام الرمال تحفها وهي تشرع أبوابها لضيوف غير مرغوب بهم من وحوش البراري وخفافيش الظلام. خزان الذكريات وحكايات القرى لا تزال مخزونة في ذاكرة المسنين من أبنائها الذين لا يفارقهم الحنين إلى قراهم القديمة وعبق العلاقات الإنسانية فيها، ورائحة خبز التنور وإبريق الشاي المنكه بأعواد الشيح القيصوم، حتى إن أحدهم هو الشيخ محمد علي العجاج البالغ 99 عاماً قال ل"الوطن" رداً على سؤالها عن الحياة وبساطتها في تلك القرى وذاك الزمن: "كأنكم حملتم إلي حفنة من رمل وبياض ملح ما زلت أتذكرها في قريتي أثرة". ويضيف الشيخ وكنيته أبو مرزوق: قريتي أثرة، قديمة وأثرية وتمتاز بأنها تجمع بين الحضر والبدو الذين تسرح إبلهم وأغنامهم حولها. ويشير إلى أن أثرة كانت تشتهر بآبار الملح وكان يصدر إلى البلاد المجاورة كالأردن وسورية وفلسطين والمدن السعودية القريبة منها. ويوضح أن الملح كان يستخرج من تلك الآبار عبر سحب مياه بالغة الملوحة ثم تترك جانباً لتجف فيبقى الملح بعدها يحمل على ظهور الجمال وينقل إلى المدن لبيعه. وعن بيوتهم القديمة وكيفية بنائها يجيب: كنا نبنيها من الطين ونسقفها بخشب الأثل وسعف النخل، وكنا نصنع جدران الغرف من خشب الأثل الصغيرة على ارتفاع مترين ونعلق عليها بعضا من حوائجنا ويطلق عليها مسمى "الشظاظ" ونصنع مكانا لوضع الحطب في وإشعاله ونسميه "المجمرة"، وفي مقابلها أعلى السقف تخصص فتحة لخروج الدخان تسمى "السوامة". وعن العلاقات الاجتماعية بين أهل القرى، يقول أبو مرزوق: علاقاتنا كانت أفضل حالاً مما هي عليه الآن. كانت "العونة" أي التعاون، سائدة بين الناس وكان أهل القرية جميعاً يتعاونون في بناء منازلهم من دون أجر، وكان الرجل إذا أراد السفر يوصي جيرانه بأهله وكأنه يوصي أخاه". وكنا دائماً بعضنا مع بعض، نجلس أمام منازلنا مقابل البرية ونحن نشاهد أغنامنا وإبلنا تسرح. وبعد صلاة العشاء كنا نجلس عند باب المسجد". ويشير إلى الدور الذي كانت تؤديه المرأة "شريكة الرجل". ويقول: "كنا نعتمد على نسائنا كثيرا فهن صبورات ويتحملن المشاق. وعلى سبيل المثال كانت النساء في ذلك الوقت يشاركن الرجال في عملية البناء، فهن يحضرن الماء بالقرب من خلط الطين وعندما ييبس اللبن ينقلنه على رؤوسهن إلى مكان البناء، إضافة طبعاً إلى الأعمال الأخرى كالعجن والخبز وإعداد الطعام والاعتناء بالأبناء". زيارة أسبوعية أما الشيخ حامد السبيتي (أبو عبدالسلام) من قرية منوة، فيصر على غرس محبة تلك القرى في أبنائه وأحفاده، وهو يحرص كل يوم جمعة على التنقل مع أحفاده وأبنائه بين جنبات "قرانا القديمة ونتأمل في تفاصيلها، فالحنين إليها ما زال يسري مسرى الدم في أجسادنا". ويتحدث أبو عبدالسلام عن تاريخ القريات وتسميتها. ويقول: "القريات قديما كانت تسمى النبك وهو عبارة عن بئر يرتاده أهل البادية، وسميت بالقريات لأنها تتكون من عدة قرى تقع على جانبي الخط الدولي الآن وتبعد عن مدينة القريات حوالي 35 كيلو متراً". ويضيف: منذ قديم الزمن والقريات محط أنظار المارة من الدول المجاورة، كما زارها كثير من الرحالة وكتبوا عما شاهدوه من آثار وعادات وطبيعة وسكان وحالة اجتماعية واقتصادية وكرم الضيافة وطرق استقبال، ومن أشهرهم جورج أغسطس الذي زار القريات في عام 1848، وكار لوجوا رماني عام 1864 واليدي آن بلنت عام 1879 وتشارلز هيوبر عام 1883 وارتشيبا لد فورد عام 1900 وموزل عام 1896 وبتلرزايمر عام 1322". وتابع السبيتي قائلا: أول أوروبي كتب شارل هوبير مايو 1879 عن الصعيدي: "سأكون أول أوروبي تسلق الصخرة التي يقوم عليها قصر السيد (الصعيدي). إنها صخرة وحيدة ، وثمة صخرتان أخريان أصغر حجماً موجودتان حول كاف، قدر ارتفاعهما بقرابة 80 متراً فوق السهل، أما القمة فعلى شكل مائدة مستديرة ويبلغ محيطها 3000م، وهي مكونة كلياً من كتل بركانية ضخمة سوداء صلبة جداً غارقة في غلاف ترابي تتداخل فيها بضع طبقات من الجير الجميل الشديد الصلابة والبياض، وكنت قد صادفته على الطريق بين الأزرق وكاف. تتألف الأطلال التي تتوج الهضبة العليا من حائط بارتفاع 3 إلى 4 أمتار وبسماكة تتراوح ما بين نصف متر ومتر واحد يحاذي حدود القمة الشرقية للصخرة. أما الجوانب الثلاثة الأخرى فليس لديها جدران ومن المرجح أنها كانت عمودية. الطريق المؤدية إلى الهضبة والمقوّضة كلياً تقع أيضاً في الجهة الشرقية وتبدأ من مقبرة كاف الواقعة عند قاعدة الهضبة. باب حائط الدفاع هذا كان مقفلاً بمصراعيه من الحجر الأسود شبيه بتلك الأبواب التي تصادفها بكثرة في أطلال المدن في لجا وجبل الدروز وحوران التي رأيتها دارجة الاستعمال في بعض الحدائق في تدمر. كان أحد المصراعين على الأرض تحت المدخل. على الهضبة كذلك غرفتان صغيرتان دون سقف تستندان إلى حائط السور، وإلى الشمال تبدو جدران مبنى صغير يضم أيضاً غرفتين . باتجاه باب حائط السور، حوض مدوّر مسوّر قطره (4أمتار) وعمقه متر واحد، وعلى مسافة قريبة يبدو في الأرض تجويف طبيعي على شكل مغارة ، ولا بد أن يكون هذان التجويفان قد استعملا كحوضين للماء، بين الحوضين حجر حممي ضخم، متعرج الشكل، بقياس متر مكعب تقريباً حفرت عليه بعض العلامات الشبيهة بتلك التي لا يزال البدو يستخدمونها حتى يومنا هذا لدمغ إبلهم ويسمونها (وسم) أي علامة. وبما أن الصخرة خالية من أي آثار بنيان أخرى، أعتقد أن ما كان قائما هنا لم يكن سوى مركز حصين محصن في موقع طبيعي ومن الممكن إعادته حصناً منيعاً." أويتنج وكتب الألماني يوليوس أويتنج 1883، الذي صعد القلعة أكثر من مرة حافياً بقصد التعود على المشي حافي القدمين عن القلعة قائلا: "أما بقايا المنازل فليست ذات أهمية ففي النصف الشمالي الغربي يوجد أكبر تلك المساكن ويحتوي على عدة غرف وبجانبه بركة مسطحة، وإلى الجنوب الشرقي توجد بئر مردومة، وفي الوسط يقع المسجد ذو المحراب النصف دائري". الاستثمارات السياحية آتية أكد المدير التنفيذي لجهاز السياحة والآثار بمنطقة الجوف حسين بن علي الخليفة ل"الوطن" أن القريات تمتلك كثيراً من المقومات السياحية ولديها عدد كبير من فرص الاستثمار السياحي خصوصاً المواقع الأثرية مثل قصر كاف وقلعة الصعيدي ما يؤهلها لتكون مدينة سياحية أثرية، لافتا إلى أنه سيتم استثمارها لتشكل تكاملا بين المواقع السياحية التراثية والاستشفائية. وقال الخليفة: القريات من المدن التي ستستثمر سياحيا وخاصة القرى المتناثرة على الطريق الدولية. ولعل موقع كاف السياحي سيجعلها محطا للأنظار حيث تقع كاف على خطين هما الخط الدولي المتجه إلى بلاد الشام والخط الآخر إلى الرياض. وأضاف: سوف تستثمر قرية كاف استثماراً متكاملاً لواحة النخيل والقصر الأثري وجبل الصعيدي لتكون بمجملها مكاناً واحداً مترابطاً سياحياً". وتابع: "من المواقع المهمة كذلك في القريات الذي يتيح لنا استثماره بالشكل المطلوب، قصر الحديثة بالقرب من المنفذ ويمكن أن يستثمر كمتحف، أو مكان تراثي أو مقهى للعرض المتحفي لأن المتاحف التراثية من شأنها أن تحيي المكان لتدب الحركة فيه". وأكد الخليفة اهتمام رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز بالقريات. واستعرض الخليفة استراتيجية السياحة بالمنطقة التي أعدت بعد بحث ومسح أجرته الهيئة قبل سنوات، تمخض عنه إصدار الاستراتيجية السياحية بمنطقة الجوف ومن ضمنها القريات. وأشار الخليفة إلى أن القريات تتميز عن بقية مدن المملكة بسياحة الاستشفاء لوجود العيون الكبريتية مثل عيون الحواس ومنوه وكاف، وقال إنه بالإمكان تنميتها وتطويرها كمنتجعات صحية، كما تعتبر السبخات التي تشكلت حول هذه المواقع من معالم الجذب السياحي بالقريات.