ملء فراغات جدران الأبنية الشاهقة الارتفاع الممتدة المساحات الذي بات سمة هذا العصر، لم يعد مشكلة في هولندا، فلم تعد هناك حاجة ملحة لتغطية تلك الجدران بالألوان المتكررة التي تبعث على الملل بعد حين، فقد حلت فنون الجداريات محل اللون الواحد، لتحول واجهة البنايات إلى لوحات فنية رائعة مترامية الأطراف، مفعمة بالمشاعر الإنسانية والتعبيرات، لوحات تبعد بناظرها عن حدود الزمان والمكان، وتحلق به في آفاق أخرى تحميه من الرتابة، فأصبح الكثير من الأبنية الهولندية في واجهاتها مزارا وقبلة متجددة للناظرين، مهما احتوى قلب هذا المبنى من مهام وظيفية تقليدية. وحول الجداريات قديمها وتطورها الحديث، عقد مركز الثقافة الشعبية في أمستردام منتدى كشف خلاله عن مراحل عدة متطورة من فن الجداريات، وكيف تحول من مجرد رموز أو رسومات محددة سجلها القدماء على مر العصور على جدران المعابد أو الكنائس، إلى عالم فني فريد منطلق، يعبر عن تطورات العصر بما يحمله من متغيرات، لأن الجدارية لوحة كبرى تسمح لراسمها بالتحليق بحرية ودون حدود مقيدة بالمساحة أو الحجم الذي تفرضه عليه اللوحة الواحدة. وقالت مديرة مركز الثقافة الشعبية إنيكا ستروكين إن الجداريات القديمة حملت لنا تاريخا ثقافياً واجتماعيا من القدماء، كما حملت لنا طرازا من الهندسة المعمارية القديمة، ونقلت جداريات دور العبادة كثيرا من معاناة الأجداد، وكثيرا من سعاداتهم، ولكنها في النهاية لم تتجاوز النسق الديني، أو الاجتماعي التقليدي. في حين أن التطور الحديث للجداريات شمل عالما أوسع من القيود التي فرضتها دور العبادة، لتصبح فنا أرحب الجنبات. لقد باتت الجداريات فن الثقافة الشعبية، وسمة يستلهمها مهندسو العمارة الحديثة، إنها تنقل الخبرة والمعرفة عبر الصورة للأجيال القادمة. وقال أستاذ علم الاجتماع ويم ديكر: إن التحول الذي شهدته فنون الجداريات كبير جدا، ليس في شكل الرسومات أو الألوان، ولكن في الهدف الذي يسعى من ورائه راسم الجدارية، حقا توجد جداريات ذات طابع تجاري لجذب مشاهديها، كما هو الحال في بعض الأبنية والفنادق، ولكن انتشار الجداريات في الشوارع على نحو مستقل بات أكبر، ولها طابع ثقافي أعمق، فلم تعد الجداريات مجرد كليشيهات متكررة على جدران الكنائس، بل تخلصت من إسارها، وباتت عنصراً أو وسيطاً تعليمياً وتثقيفياً، ينقل المعرفة والحكمة للأجيال الجديدة. ويشير إلى أن عناصر وخامات الجداريات باتت متنوعة، فلم تعد تعتمد فقط على الفرشاة الضخمة والألوان، فهي تارة من القرميد، أو قطع البورسلين والزجاج وغير ذلك من الخامات التي تكسبها روعة وجمالاً وديمومة على مر السنين.