تعد طائرة «بلاك هوك» أهم طائرة مروحية أميركية مقاتلة، وهي مصممة للانتقال سريعا إلى أماكن القتال، كما يمكنها أن تنقل أو تجمع المعدات والقوات وتنقل الجرحى، ويمكن استخدامها لأغراض هجومية بحتة، وهي مدرعة بدرجة تمكّنها من نقل الأشخاص وإجلائهم وسط إطلاق النار، كل ذلك يجعل منها طائرة قوية جدا، لكنها لم تكن بقوتها المعهودة تلك في الأحد الموافق 5 نوفمبر من هذا العام، عندما كانت تحلق فوق سماء محمية ريدة الواقعة في الجنوب الغربي للمملكة، وداخلها 11 رجلا من أبناء الوطن المخلصين. ضعفت كثيرا، وبدلا من أن تقلهم إلى المحطة التي يمكنهم خلالها العودة إلى منازلهم وأسرهم، وأحضان صغارهم، بعد يوم عمل ميداني في خدمة الوطن، أقلّتهم إلى محطة لفظ الأنفاس الأخيرة، وتوقف القلوب عن النبض، وصعود الأرواح إلى بارئها. كانت فاجعة كبيرة بحجم الوطن، غمرت أبها بحزن عظيم لم تشهده من قبل، وسرقت النوم من أعين الأبهاويين، وضجت لها سماء المدينة التي لم تعرف السكون في تلك الليلة، لكثرة الطائرات المحلقة بها، والمتجهة صوب محطة رحيلهم تلك، بحثا عن الطائرة التي احتضنت جثامينهم الطاهرة، لم تكن فاجعة لأهالي عسير فحسب، ولا لذوي الراحلين ومحبيهم، بل كانت فاجعة للوطن بأسره، لخسارة نخبة من المسؤولين المخلصين والشبان الطموحين. لم تدرك تلك الطائرة أنها تقل منصور بن مقرن الذي أمضى 196 يوما في العمل نائبا لأمير عسير، لينجح خلال تلك الفترة الوجيزة في سلب قلوب الأبهاويين بتواضعه الجم وأخلاقه العالية، وإخلاصه في العمل، لم تع أنها تقل محمد بن سعود المتحمي الذي تبنى فكرة شارع الشهداء في محايل، كأول شارع يحمل اسم الشهداء، ويجسد تضحياتهم، والذي جعل من محايل عسير مصيفا شتويا يقصده كل باحث عن الدفء. ولم تدرك أن واحدا من الجالسين في أحد مقاعدها هو أمين عسير، صالح القاضي، الذي كان يستقبل المواطنين كل إثنين وأربعاء. لم تلحظ أن أحد ركابها هو سليمان الجريش الذي عرف بمحاربته الفساد، وقال في مقدمة أحد مؤلفاته: «لم يعد الفساد الإداري مشكلة تعاني منه دولة بعينها، بل تحول إلى ظاهرة عالمية تستوجب التعاون الدولي لمواجهتها». لم تدر أنها تحتضن في جوفها المهندس فهد الفرطيش الذي اعتنى بشجرة العرعر، وعدّها أيقونة السياحة في عسير، وكان يخشى عليها من الانقراض. وربما لا تعلم أن داخلها مدير عام المراسم بإمارة عسير، الابن البار لوالديه خالد حميّد. ولم تدر أن على متنها 5 شبان، يحملون حب الوطن في قلوبهم، ويفدونه بأرواحهم. تحطمت تلك الطائرة التي أقلّتهم إلى الله، وظلوا شامخين خالدين في ذاكرة الوطن، تشهد لهم الأرض وإنسانها بجميل ما صنعوه. لن تنساهم عسير، ولن ينساهم الوطن الذي ماتوا في خدمته. إلى جنات النعيم يا شهداء الوطن الأبرار.