كنت أنكر على من يتحدث عن دور «الواسطة» وأهميتها، وأحاول إقناعه بأن ما يقوله غير واقعي، وأن الجهد والعمل وحدهما مفتاح التميز والتقدم في مختلف مجالات الحياة، بيد أن هذا المفهوم لم يصمد طويلا في مخيلتي، وشرعت أتنازل عنه شيئا فشيئا مع مرور الوقت والأحداث، فصرت ألزم الصمت حينما يدور النقاش حولها أو أهز رأسي موافقا؛ إذ لم تعد حجتي ذات جدوى وقوة، خاصة وقتما أرجع إلى نفسي الأمارة بالسوء وأتذكر كم مرة قلت «لو عندي واسطة»، لقد قلتها بعدما نشرت عشرات المقالات عبر الصحف في مختلف شؤون الحياة، ولم تتح لي فرصة طرح ما لدي في زاوية صحفية، وللأمانة لم أطلب هذا الأمر غير أن ما أكتبه مشاهد ومقروء، صحيح أنني لست كاتبا محترفا إلا أنني أزعم أن لدي موهبة حاولت تنميتها. الواقع أن للواسطة تأثيرا على كافة المستويات والأصعدة، فنحن نرى نتائجها عندما نذهب لقضاء حاجاتنا الشخصية في دائرة ما أو مؤسسة؛ فبينما نكون جالسين أو منتظمين في طابور ننتظر فرصة إكمال إجراءات أتينا من أجلها، يأتي فجأة من ينهي معاملته ويغادر ونحن نراوح ذات المكان. وهناك تباين وتفاوت فيما تملكه الواسطة من قوة وطاقة، فمنها ما لا تتجاوز قدرتها خطوة يتيمة للأمام، ومنها ما تختصر الخطوات وتحرق المراحل..، والحق أن الواسطة تلازم المجتمعات البشرية بغض النظر عن الثقافة والتحضر والتقدم لكن بلا شك محدوديتها وتفشيها في تباين من مجتمع لآخر. أسوأ حالات الواسطة عندما تتسبب في خفض مؤهل ومُقْتدر، ورفع من ليس لديه الأدوات التي تجعله جديرا بما أُوصل إليه، وحتى لا نكون مغالين بهذا الشأن نقول: إن للواسطة دورها الذي يعرفه الجميع، لكن في الجانب الآخر هناك من حقق مبتغاه ونجح في حياته العلمية والعملية دون أن يحتاج لواسطة تخطفه صوب رغبته في غمضة عين، فلا يغرنك من يصل القمة قبل وصولك، بل واصل سيرك وثقتك بنفسك، وذاك الذي قفز للقمة قد يترنح ويقع، إن لم تكن لديه لياقة تسانده.