حينما كنا صغارًا شُغفنا بما تناقله المجتمع السعودي من قصص عن تواضع هذا الشيخ المتناهي، وروايات موثقة عن مدى زهده؛ وأخلاقه وسماحته وتواضعه.. حقائق تروى من القريب والبعيد، وخاصة من والدي رحمه الله، الذي ربطته بشيخنا الفاضل رابطة الإعجاب والمحبة والاقتداء ومن كل محب لشيخنا وجيله الرائد.. لدرجة لا أعتقد أن أحدًا قد بلغها في بساطة العلاقة مع المواقع الرسمية المتتالية، وفي رقة التعامل مع الآخرين و(التودد) مع الناس؛ فهو ثراء على الأصعدة كافةً وسيما الإنساني منه. ولطالما من فرط إعجابنا بهذه الشخصية النادرة أن تطلعنا لمعرفتها؛ لنقترب منها، ونستشعرها؛ ونستفيد منها بوصفها قدوة لنا في مقبل الأيام.. إنه معالي الوالد الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصيِّن، الرئيس العام السابق لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، ورئيس اللجنة الرئاسية لمركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني والاقتصادي والقانوني والخبير المعروف. الذي يرقد على السرير الأبيض.. داعين له بالشفاء العاجل وحسن الختام. وقد دارت الأيام والسنون، واضطلعت بمسؤولياتي في الوظيفة العامة، كان هناك شيء دومًا يذكّرني بهذه القصص التي سمعتها في سالف الزمان من جميع من أعرفهم عن معالي الوالد الشيخ صالح، واعتداله وتسامحه وحُسن خلقه، وتواضعه، يأخذك من هذا العصر المشتعل إلى ذلك العصر اللامع قبل مئات السنين، عصر الصفوة من التابعين، رضوان الله عنهم. فعادةً كنّا نحرص أن نستقي هذه المبادئ من المصادر الأولية والينابيع الصافية من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهّرة؛ وقصص الصحابة والتابعين... ولكن أن يراها إنساننا محقَّقة وواضحة ومشخَّصة في شخص هذا الشيخ القدوة؛ فإن ذلك لا محالة حلم قد تحقّق.. رأيت ذلك كله في معالي الشيخ الوالد صالح الحصيّن، حفظه الله ورعاه.. ولعل من بين أجلّ الأدوار وأعظمها التي تولاها معالي الشيخ الوالد صالح بن عبد الرحمن الحصيِّن، جمعه- شفاه الله- ثقة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله- بتولي معاليه رئاسة الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، مع رئاسة اللجنة الرئاسية لمركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، وتوجيه وتنفيذ مشروع خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز لترسيخ الوسطية والاعتدال، وجعل الحوار طبعًا من طباع المجتمع السعودي وأسلوب حياة. ولن أنسى ترديده الدائم لمآثر وجهود خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله- ودعاءه المستمر لمقامه الكريم آناء الليل وأطراف النهار، أن يوفقه ويسدد خطاه؛ لخدمة الدين والوطن. وقد روى لنا من الحقائق ما يعجز القلم عن سرده من إنجازات وتوفيق خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في كثير من المشاريع المرتبطة بالحرمين خصوصاً أو الوطن بصفة عامة. فوالدنا الشيخ الحصين، وإن كانت شهادتي في معاليه مجروحة؛ كما هو معروف عنه، شخصية ذات نسيج مختلف، يرى أن العمل الخيري والاجتماعي والإنساني أكثر إمتاعًا له من الوظيفة الرسمية، وأمثاله في سلوكه وقناعاته قلة؛ وهو بهذا يؤسس مدرسة في نكران الذات؛ فضلاً عن أنه شخصية تجمع على احترامها الأغلبية من أبناء هذا الوطن، بوصفه رجلاً عطر السمعة وحسن السيرة ومعروف عنه الكثير من الخصال الحميدة. وأجدني في هذه الأيام التي نفتقد فيها أنس معاليه وتوجيهه الكريم، أن من الصعب جدًا وصف سيرته وحياته ونهجه، عالم فريد في كل شيء لا يختلف اثنان على زهده وعلمه وورعه وتدينه.. إنه السهل الممتنع سهل وميسر في كل شيء إلا ثوابت الدين والوطن، ولكنه الوحيد الذي يبدع ويجيد حماية الحدود أصولاً وثوابت بالدليل والبرهان وبالعقل والمنطق وبكل المهارات العلمية الواضحة الراسخة بالحوار والقياس والتوضيح الذي استمده من تعليمه وتربيته وتعمقه في الشريعة والقانون؛ جمع بين العلم الشرعي والدنيوي فارتقى إلى مراتب الثقة والقناعة والاطمئنان إلى كل عبارة أو رأي أو مناظرة، يعرف دينه حق المعرفة ويحترم الاختلاف ويجيد الاستشهاد بالآخر إيجابًا وسلبًا، مذهل في أسلوبه وفي نفسه.. إنه المسلم الذي لو نهج الدعاة والعلماء القائمين على العلم الشرعي نهجه لرأينا جيلاً لا يضاهيه جيل: دينًا ودنيا، لقد أرهقتنا المناقشات والمشاحنات لتعريف الوسطية وعلمناها رؤيةً وتطبيقًا ومشاهدةً في شخصه. وأستطيع القول: إن الوسطية اسمها: الشيخ صالح الحصين لو كان لنا أن نصفه وصفًا كاملاً، لكان أفضل تربية وتعليم لاعتناق الوسطية ولتكون خير الأمور أوسطها. شيخنا الغالي ووالدنا العزيز، لقد علَّمتنا أن الابتلاء سُنة من سُنن الله تعالى الماضية، وقد شاء المولى عزَّ وجلَّ أن يمنحها أولياءه وأصفياءه وأحباءه؛ حتى يرفع درجاتهم عنده، وجعلها تعالى منازل عنده؛ ليغفر بها ذنوب المؤمنين ويستر بها عيوبهم، ويرفع بها درجاتهم. كما علَّمتنا -حفظكم الله ورعاكم- أن نصبر وأن نحتسب، وأن نقول: "قدَّر الله وما شاء فعل" ونبتهل إلى المولى عزَّ وجلَّ ونقول: "اللهم اشف وأنت الشافي شفاءً لا يغادر ألماً ولا سقماً".