"عيب فأنت رجل، لا تكن لحوحا، اسكت، كوني مهذبة، لا داعي للبكاء". ما تقدم ليست سوى كلمات تخرج وبكل سهولة من لدن الآباء والأمهات، دونما أي وعي منهم بأنها قد تدمر مستقبل جيل بأكمله، فلم يخطر ببالهم أن تلك الكلمات التي تخرج بيسر من أفواههم ترسخ وتعلق في ذاكرة الطفل، بل وتؤثر على سلوكه مع من يتعامل معهم مستقبلا، لاعتقادهم (أي الأطفال) بأن التعبير عن العواطف الداخلية يعد نوعا من أنواع الضعف المسيء للشخصية، فيكبر بداخلهم الكبت النفسي وهم صغار، إلى أن يصبح ذلك الكبت كهلا في مرحلة شبابهم، وهم في أمس الحاجة للتعبير عما بداخلهم. صيتة طالبة جامعية تخطت وبصعوبة مراحل التعليم العام نتيجة الكبت الذي تعرضت له منذ صغرها من والدتها في ظل انخراط الأب في مشاغل الحياة، وهو على حسب قولها في حضوره تتمكن بشكل يسير من التفريغ الانفعالي له، فتتحدث عما يجول في خاطرها ويستمع لنجواها، ولم يدم ذلك الحضن الدافئ طويلا في حياة صيتة، فقد رحل عنها وعن الدنيا من كان مصدرها لبث انفعالاتها وهي لا تزال طفلة في المرحلة الابتدائية ولم تتجاوز الصف الثاني، لتعود من جديد إلى كبت عواطفها في ظل تربية غير سليمة من والدتها. تقول صيتة: منذ أن توفي والدي ولم أتجاوز سن التاسعة، اعتدت على كبت مشاعري، ولم أتمكن من إخراجها للتخلص من ضغوطاتها، وتابعت بحزن: لم تدرك والدتي بكلماتها الرنانة على مسامعي أنها تغتال بداخلي لغة أنا في أمس الحاجة إليها، ولطالما كانت تكرر "أنت كبيرة، عيب، تعلمي الصمت، كوني مهذبة، ابتعدي ليس لدي متسع من الوقت لسماعك". وتابعت: ما إن تطلق والدتي تلك الكلمات حتى أعود أدراجي من حيث أتيت صامتة أتمتم بما يجول بداخلي، وألتفت يمنى ويسرى خوفا من أن تسمعني، واستطردت صيتة بخجل أحمرت منه وجنتاها قائلة: الآن أنا على مقاعد الجامعة ولا يوجد لي صديقات، حتى المشاركة في المحاضرات أخشى البوح بها أمام الأستاذات خوفا من الوقوع في الخطأ، جراء ما رسخ بذهني منذ طفولتي بأن كثرة الكلام تفقد الفتاة هيبتها، ولم أعتد على البوح حتى من أقرب الناس لدي وهي أمي، ومما زاد من الألم في نفس صيتة هو أنها لا تزال صغيرة وتعاني من بعض الأمراض كتهيج القولون العصبي، والمشاكل الجلدية. وقالت: ذكرت لي الأخصائية النفسية أن ما أعاني منه هو نتيجة الكبت الذي تعرضت له في صغري. ولم تكن أم معاذ بأفضل حالا من صيتة وهي التي لا تجيد حتى التعبير عن مشاعرها تجاه زوجها، وتعيش معه في غربة عواطف نتيجة ما تعرضت له في صغرها من والديها اللذين لطالما أكدا لها أن كثرة الحديث عن النفس تعيب الفتاة. تقول أم معاذ: لجأ زوجي في الآونة الأخيرة للبحث عن زوجة أخرى تشاطره الرأي، وتجيد التحدث عما بداخلها، وتابعت بيأس: حتى عند زواجه من امرأة أخرى لم أجد التعبير عن مشاعر الحزن أمامه، وظلت تلك المشاعر حبيسة بداخلي. من جانبها أكدت أخصائية الطب النفسي الدكتورة هدى الحسن على أهمية التربية السليمة من لدن الأسرة وقالت: للأسرة دور كبير في نمو الكبت النفسي لدى الأطفال، ويترجم ذلك من خلال السخرية والاستخفاف بمشاعر الأطفال، وعدم الإنصات لهم، وزجرهم مما يولد لديهم (تقصد الأطفال) الخوف من التعبير عن مشاعرهم فيفضلون كبتها ولا يحسنون التعبير عنها مستقبلا. وعن مظاهر الكبت النفسي تقول: للكبت مظاهر عديدة لعل من أبرزها القلق النفسي والتوتر المستمر واضطرابات الشخصية، كذلك هناك المشاكل الجسدية ومنها الأرق والتهاب القولون العصبي والأمراض الجلدية واضطراب الذاكرة. ونصحت الحسن في نهاية حديثها ل "الوطن" بضرورة الاستماع لنجوى الأطفال، خاصة من هم في سن المدرسة. وقالت: الأطفال في هذه السن ينتقلون إلى مرحلة جديدة وهم بحاجة إلى التحدث والتفريغ الانفعالي مع من يثقون بهم، ولا يوجد هناك من هم أهل للثقة عند الطفل أكثر من الأب والأم.