قرأتُ مقالة السيدة وفاء الرشيد في صحيفة الوطن السعودية، كما قرأتُ ردَّ السيد أحمد الرضيمان عليها في الصحيفة نفسها. كلتا المقالتان والرد الثاني للرشيد أرسلها إليّ الأخ السيد ولد أباه. عندما يبحث الفقهاء والمتكلمون بل والفلاسفة والأخلاقيون في الموضوع السياسي في الأزمنة الكلاسيكية للثقافة الإسلامية، يضعون المسألة تحت باب الإمامة، ويقصدون بها ضرورة السلطة للمجتمعات الإنسانية. ولذلك يذهب بعضهم إلى ضرورتها بالعقل، والبعض الآخر إلى ضرورتها بالعقل والشرع. والدليل العقلي واضح (من أجل الاستقرار والعدالة والدفاع). ولعلَّ خير من أوضح ما أقصده الإمام علي عندما صرخ المحكِّمة في وجهه: لا حكم إلاّ لله، فأجاب: الحكم لله وفي الأرض حكام. لا بد للناس من أمير يلمُّ الشعث، ويحفظ السُبُل، ويجمع الفيء ويجاهد العدو، ويأخذ للضعيف من القوي، حتى يستريح بَرٌّ ويُستراح من فاجر. فأمير المؤمنين علي ما ذكر للسلطة وظيفةً دينية. لكنّ الماوردي وابن تيمية وابن خلدون، على سبيل المثال، يذكرون للسلطة القائمة إلى جانب وظيفتها الرئيسة، أي «سياسة الدنيا»، حراسة الدين. ويضيف الماوردي: على أصوله المستقرة وأعرافه الجامعة. فالسلطة السياسية تحرس الدين، أو تصون حريات العقيدة والعبادة والتعليم كما تفعل كل الدول حتى العلماني منها أو تزعم ذلك! ولكي لا نُسرف في التفصيل، لنعُدْ إلى الأصل: كل المتكلمين والفقهاء المسلمين من أهل السنة بالذات، منذ أحمد بن حنبل وإلى أبي يعلى في المعتمد والماوردي في الأحكام السلطانية وإمام الحرمين في الإرشاد والغياثي والغزالي في الاقتصاد في الاعتقاد وابن تيمية في السياسة الشرعية والفتاوى ومنهاج السنة النبوية وابن جماعة في تحرير الأحكام.. هؤلاء جميعًا يقولون إنّ الإمامة ليست من الاعتقاديات ولا من التعبديات، بل هي من المصلحيات والاجتهاديات. ويقول عددٌ منهم إنه ما كان ينبغي أن تُذكر في كتب العقائد، لكنهم آثروا ذكرها للردّ على الشيعة الذين ينكرون شرعية الخلفاء الثلاثة الأُوَل. والمعروف أنّ الشيعة منذ القرن الثالث تقول غالبيتهم بأن الإمامة من أصول الاعتقاد عندهم مثل التوحيد والنبوات والمعاد. ويقول الإسماعيلية والإثنا عشرية إنّ أئمتهم معصومون. الأصل الاعتقادي أيها الأخ الرضيمان، مثل التوحيد والنبوات واليوم الآخر، ينبغي أن يكون معلومًا من الدين بالضرورة. وما وجد ابن تيمية في رسالته في السياسة الشرعية من مهمات السلطة الشرعية غير أمرين: «إنّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل». وقد فسّر الأمانات بالولايات، أي إدارة الشأن العام، والعدل عدلان: السياسي والقضائي. وفي شرحه للأمرين يتحدث عن «حُسْن السياسة»، بمعنى التصرف الحسن في المصالح «وحيثما تكون المصلحة فثم شرع الله» (كما ذكر ابن القيم نقلًا عن ابن عقيل). ولذا ما يقوله الشيخ ابن عثيمين يتناول هذا الجانب حتى في تطبيق الأحكام الشرعية من جانب القُضاة، ومن جانب المحتسبين ومن جانب وُلاة الأوقاف، إذ السياسة (أي الحكمة في التصرف شدةً أو لينًا) ضروريةٌ لفض النزاعات وقضاء الحقوق وتحقيق البر والقسط وليس في الشأن السياسي والقضائي فقط، بل وفي التعامل بين الناس (انظر كتابَي ابن قيم الجوزية في «السياسات» القضائية، والكتيّب الذي أصدرتُه في مركز الملك فيصل قبل سنوات عن السياسة الشرعية). وهذا كله شيء، والأمر الإرشادي بطِاعة أُولي الأمر شيء آخر، ليستطيع القيام بحفظ المصالح العامة، ورعاية الاستقرار، وحراسة الحوزة، والدفاع عن الناس تجاه الخارج، والدخول مع العالم في شراكاتٍ بالمعروف. هذه الطاعة نفسها مصلحيةٌ في مقاصدها وليست اعتقادية، ولا يجوز الخلط بين الأمرين. ويُنسب إلى عمر بن الخطاب في تفسير آية أولي الأمر أنه لا إسلام إلاّ بجماعة، ولا جماعة إلاّ بطاعة. ولنختم بمسألة تسييس الدين. نعم، أول من استخدم ذلك حسن البنّا وتلاه المودودي، ثم سلَّم بذلك الصحويون. وهؤلاء جميعًا يريدون الوصول للسلطة بالدين، ويغرُّون الجمهور بشعار «تطبيق الشريعة»، باعتبار أنّ ذاك الهدف يعطيهم مشروعية. وشريعتنا مطبقةٌ بالفعل في الاعتقاد والعبادات والأخلاق والتعاملات بين الناس. والمسلم مع دينه في تحققٍ دائم. فالعنوان خادع وإدخال الدين في خاصرة الدولة يؤدي إلى انشقاقاتٍ في الدين لتعدد الأطماع باسمه، كما أنه يضر بالدولة للمزايدة عليها ومنازعتها على الشرعية الدينية. أمامنا نضالٌ هائلٌ تفكيرًا وتدبيرًا، وقد قامت السيدة وفاء الرشيد بجهد طيب في مجال التحقيق والتصحيح. ويكون علينا جميعًا الاستمرار في العمل لإحقاق ثلاثة أهداف: استعادة السكينة في الدين، وتجديد تجربة الدولة الوطنية، وصياغة علاقات طبيعية مع العالم. وقد كنتُ لسنواتٍ خلت أختم مقالاتي ببيت أبي العلاء: فيا دارها بالخيف إنّ مزارها *** قريبٌ ولكنْ دون ذلك أهوالُ * أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية * نشر في «الاتحاد» الإماراتية