في هذا الوقت من كل عام، تتحدث المملكة من أدناها إلى أقصاها عن مسيرة المجد والكفاح والبدايات لهذا الكيان العظيم. لتستذكر الأجيال أسطورة الأبطال الذين قادوا نضال التأسيس الكبير لهذه الصحراء المترامية الأطراف، والتي جعلوا منها درةً عالمية في كافة المجالات. قصة التأسيس التي قادها الملك عبدالعزيز لم تكن سهلة ولا يسيرة. بل هي صعبة وقاسية، وقد عانى منها هو ورجاله الأمرين، حتى بسط نفوذه وقوته على كافة أرجاء الجزيرة العربية. ومن ثم قادها نحو الاستقرار والطمأنينة والتنمية والبناء. الواقع الذي فرضه الملك عبدالعزيز على أرض الجزيرة العربية، كان حلما يراود خياله الصغير عندما كان طفلاً، يروي أرومستونج في كتابه سيد الجزيرة: «أن الملك عبدالعزيز حين بلغ طور الشباب، كان يتفاخر أمام أقرانه بأنه الوارث لدولة الرياض ونجد. وأنه لا بد في يوم من الأيام أن يطرد من يحكمها ليعيد مجد آبائه وأجداده. فكانوا يضحكون عليه ويسخرون منه، وكان هو يغضب منهم، غير أنه لم يفقد الثقة بنفسه». النجاح الكبير الذي وصل إليه الملك عبدالعزيز في تأسيسه للمملكة العربية السعودية لم يكن عشوائياً ولا تخبطياً، بل إنه قام على عدد من الأساسات الصحيحة التي استطاع أن يستخدمها ويفعلها بشكل ذكي، ويواجه به خصومه الذين لم يكونوا يقرؤون الواقع ومتغيراته السياسية ببعد النظر الذي لا بد أن يتملكه كل من يدخل الملاعب السياسية. يعتقد علي الوردي أن بعض الأسر الحاكمة في الجزيرة العربية، كان من الممكن لها أن تستمر في حكمها إلى أبد الآبدين، وأن الجزيرة العربية لن تكون بهذا الشكل؛ لولا خروج هذا الرجل العملاق الداهية في هذا الوقت. ويرى أن نجاحه كملك وكقائد سياسي بارز في هذه الرقعة من الأرض، قام على عدد من العوامل: الأول: ذكاؤه الفطري الحاد، وإدراكه بأن السياسة هي فن الممكن. الثاني: اجتذابه لبعض المستشارين من البلدان العربية، من أجل الاطلاع على أحابيل السياسة الدولية، في نفس الوقت الذي لا يقبل فيه كل ما يقولونه، بل يوازن بين ما يرونه، وما يراه هو، ثم يتخذ القرار بهدوء. الثالث: سخاؤه وكرمه اللامحدود على الأتباع والأعوان. الرابع: امتلاكه للكاريزما الآسرة. الخامس: قدرته على إخضاع نفسه دون شهواتها الفطرية كالحقد والغضب، فتراه بعد انتصاره في المعركة، يقبّل ويحتضن خصمه ويحترمه وينزله مكانته الرفيعة، وهذا ما تتطلبه السياسة من رجالها الأفذاذ. السادس: سيطرته على الصدف، وتسخيره للفرص التي تسنح له بأن تعمل في صالحه. أما على المستوى الشعبي، فشعبه عندما يقارنون بينه وبين الحكام المختلفين في وقته، كانوا ينظرون له بنظرة مختلفة تماماً، ولذلك أطلقوا عليه ألقابا يرون أنها تمثل أحاسيسهم تجاهه. أحد أهم ألقابه لقب (معزّي) والناس يعتقدون أنه مختصر لاسم عبدالعزيز، وهذا غير صحيح. فهد المارك في كتابه (من شيم الملك عبدالعزيز) وكما ذكر تقرير في صحيفة الاقتصادية يقول: «إن الملك عبدالعزيز إذا أحكمت الظروف السياسية أو العسكرية بحكمها القاسي الذي لا يعرف العاطفة أو الرحمة، واضطرته لأن يقتل المرء، فإنه بعد التنفيذ يبذل كل ما يملك من العطف والرحمة والشفقة والسخاء لأبناء المقتول ولوالديه، حتى يشعروا بأن عبدالعزيز عزاهم بمقتولهم، ومحا كل ما في نفوسهم من رواسب الحقد والضغينة والبغضاء». أما أهالي نجد، فكانوا يلقبونه ب»الشيوخ»، وأعتقد أن هذا اللقب جاء من باب التعظيم والتمييز له عن باقي الحكّام، كونهم يرون فيه أنه مجموعة من الرجال العظام الذين تشكلوا في شخصية رجل واحد. رغم أن الباحث والمؤرخ عبدالرحمن الرويشد، رحمه الله، لا يرى هذا الرأي. فإنني أعتقد أن المخيال الشعبي لأهالي نجد، لقبه بهذا اللقب تعظيما لدوره، ونتيجة لتعلقهم به وبطريقته في الحكم، وبأنه الوريث القوي للحكم الشرعي لهذا الجزء من الجزيرة العربية والذي جاء ليُخضع به كافة الشيوخ الصغار المتناثرين على هذه البقعة ويجعلهم شعبا واحدا متماسكا.