كان لجمع القرآن الكريم دلالة تشريعية جوهرية، لأنه حدد موضوعات النص القرآني من جهة، ومن جهة أخرى أعطى للفقهاء مرجعا صحيحا يستندون إليه في عملية استنباط الأحكام الشرعية. تلت عملية جمع القرآن، ظهورُ حركة أخرى تمثلت في حفظ الحديث وتدوينه، بوصفه نشاطا ذا أهمية كبيرة، سواء داخل دائرة الفقه أو خارجها، وبوصفه مصدرا ثانيا للتشريع. نهض بالفقه الإسلامي أفرادٌ كان التدين دافعهم الأساسي للاهتمام بدراسة الفقه، والالتزام الديني العميق، تطلّب منهم تفصيل شريعة تعنى بكل مشكلات الحياة. فكانت المساجد وحلقات العلم تحتضن دوائر النقاش التي يتبادل فيها العلماء الآراء الدينية المتعلقة بالقرآن والمسائل الفقهية، والتي قد يطول فيها النقاش والجدل الفقهي حتى مطلع الفجر. وفي ظل هذا النشاط العلمي المحدود، بدأ الفقه الإسلامي بالظهور، تزامنا مع عملية التخصص التدريجي في منصب القضاء، وهو تخصص فرضته الحاجة بفضل الفتوحات الإسلامية والاستقرار في مناطق جديدة بعيدة عن عاصمة الدولة الإسلامية، وهو ما تمخض عنه مزيد من المسائل الفقهية المرتبطة بأنماط الحياة الحضرية الجديدة. تطور بعد ذلك مشروع الفقه، آخذا في الحسبان قضايا معقدة دخلت صميم المجتمع الإسلامي الناشئ، كاللغة والتأويل والفلسفة الأخلاقية، مما نتج عنه تحول الفقه إلى علم منهجي يرفض الاجتهاد البشري الحر المنقاد إلى مصالح ورغبات شخصية. وفي سبيل التعامل مع التفكير الاعتباطي في عملية استنباط الأحكام الشرعية، برز علم جديد في منهجية التشريع والتأويل، يتطلب قدرا كبيرا من التأهيل الفقهي ومعرفة مستفيضة بقوانين التأويل والاجتهاد والتفسير، يُعرف بعلم أصول الفقه. تطلّب هذه التطور في الفقه الإسلامي توسعا كبيرا في نظريات المعرفة ومناهج البحث، ويعدُّ كثيرون كتاب «الرسالة» للشافعي أولَ عمل مكتوب في النظرية الفقهية، سعى الشافعي خلاله إلى إرساء طرائق الاجتهاد العامة، محاولا أن يضع نظرية فقهية تصف الطرائق والقواعد التي يستنبط خلالها الفقه. ثم توالت بعده المحاولات والاجتهادات الرامية نحو تأسيس قواعد عامة لاستنباط الأحكام الشرعية، وإبراز مقاصد الشريعة خلال ما يملكونه من معرفة كبيرة بنصوص ومعاني وأدلة الشرع، حتى استطاعوا تكوين منظومة فقهية مترامية الأطراف، مكّنتهم من تطبيق الشريعة على الوقائع -مهما صغرت- في جميع جوانب الحياة. وفي سبيل الوصول إلى مبادئ كلية‘ تطلّب منهم ذلك اللجوء إلى عملية استقراء للحوادث الجزئية اعتمدت على الإحصاء، وهو أساس الاستقراء العلمي الحديث، وبهذه الطريقة توصلوا إلى الهدف الأسمى وهو وضع علم القواعد الفقهية، كقواعد عامة للاستدلال أو كبدهيات علمية، والاستقراء هنا كان هو الأساس في كل عمليات الاجتهاد التي وضع لها الأساس الراسخ والمتين، وهو -بلا شك- منجز حضاري عظيم، حاول المستشرقون أن يجعلوا له أصلا في العلوم اليونانية القديمة، ولكن هذه المحاولة باءت بالفشل، فعلم الفقه كان منجزا فريدا من نوعه. ومع التعمق في دراسة الشريعة، تجاوز الاهتمام مسألة استنباط الحكم الشرعي إلى مسألة أكثر شمولا، وهي البحث عن أسرار ومقاصد الأحكام الشرعية بهدف تفسير عدد كبير من الظواهر، ويطلق على هذا العلم مصطلح «مقاصد الشريعة». ويفسر أحمد الريسوني نظرية المقاصد بقوله: «فإذا كانت الأحكام الفقهية بأدلتها التفصيلية عبارة عن حقائق جزئية، فإن نظرية المقاصد هي الإطار الكلي الذي ينتظمها ويجمع شتاتها، وينسق فيما بينها، ويعطيها -على ما بينها من تباعد وتنوع- بُعدا واحدا ومغزى واحدا. وإذا كانت أحكام الشريعة وأدلتها تنتج لنا وتعطينا قضايا أصولية، ونظريات تشريعية، وقواعد فقهية، فإن نظرية المقاصد أيضا تنتظم كل هذه القضايا والنظريات والقواعد، وترتبها في نظام معين، وتجعلها جسما واحدا يخدم بعضه بعضا». ولعل التأسيس لنظرية المقاصد، للبحث والتقصي عن غايات وأسرار الأحكام الشرعية، والكشف عن الروح الكامنة فيها، يعدّ أعظم تتويج لعلم الفقه، يضمن لهذه الشريعة الثبات والشمول والاستمرارية، والسير وفق مبادئ كلية تتضمن الحفاظ على الدين والمال والنفس والنسل والعقل. وقد فتحت نظرية المقاصد المجال الرحب للعقل للتفكر والتأمل في أسرار وغايات الشارع، فالمجتهد في استنباطه الحكم من أصوله بحاجة إلى فهم النص وإدراك معناه ومعرفة مدلوله ومغزاه، والإحاطة بطرق دلالته على المعاني، وقد أكد الإمام الشاطبي على هذا المعنى بقوله: «من لم يعرف مقاصد القرآن والسنة، لم يحل له أن يتكلم فيهما، إذ لا يصح له نظر حتى يكون عالما بهما، فإنه إذا كان كذلك لم يختلف عليه شيء من الشريعة».