عندما تكون كرامة الإنسان بصفته إنسانا أيا كان جنسه أو لونه أو أصله وفصله، تعلو حتى على ما تثبته الدراسات والأبحاث المخبرية، وما يعتقده علماء الطبيعة وعلماء الأنثروبولوجيا والوراثة، حينها يصبح ذلك المجتمع قد قطع مسافة طويلة وشوطا فارطا في رقيه الحضاري، وارتفع بإنسانية الإنسان عن مهابط التمييز والتصنيف ومواقع الشك الذي قد ينال من كينونة بعض البشر أو يقلل من قيمتهم أو يغض من إنسانيتهم أو قدراتهم العقلية وملكاتهم الإبداعية التي وهبت للجميع بعدالة السماء لتبطل أي تفسير مهما علا ذلك التفسير ومهما أثبت العلماء ببحوثهم ودراساتهم، أو ما تشبث بالعلم والممارسة، حتى وإن زعم أحد أن ما يذهب إليه يثبته العلم وتؤيده الملاحظات العابرة. نشرت بعض وسائل الأعلام منذ عدة أسابيع مزاعم وآراء لعالم بارز هو جيمس واطسن، وأثارت تصريحاته ضجة كبيرة في العالم الأول لأنه صدر عن عالم الأحياء الجزيئية الذي كلامه يوزن بميزان العلم والتخصص، لكن ذلك كله لم يشفع له حين قال ما يمس كرامة الإنسان بعامة أو يفضل جنسا على جنس. وملخص ما حدث هو كالتالي: جرد المجتمع الأمريكي العالم الأمريكي جيمس واتسون الحائز جائزة نوبل - عن عمله في مجال الحمض النووي - من كل ألقابه وجوائزه الفخرية بسبب تصريحاته المثيرة للجدل حول العرق، وأوضح مختبر كولد سبرينغ هاربور الذي كان يرأسه واتسون سابقا في بيان له أنه قرر تجريد العالم من ألقابه الفخرية، نتيجة التعليقات التي صدرت عنه في برنامج تلفزيوني تم بثه مؤخرا، حيث صرح عالم الأحياء الجزيئي جيمس واتسون البالغ من العمر 90 عاما في برنامج (أمريكيان ما سترز): أن الجينات تظهر اختلافا في الذكاء المتوسط بين الأشخاص البيض والسود في اختبارات الذكاء. وأضاف المختبر أنه يرفض بشكل قاطع الآراء الشخصية المتهورة التي أعرب عنها الدكتور جيمس حول موضوع العرق والوراثة، وأن تصريحات الدكتور واطسون تستحق الشجب ولا تمثل في أي حال من الأحوال آراء المختبر ولا أمناءه ولا أعضاء هيئة التدريس والطلاب، ويدين إساءة استخدام العلم لتبرير الأفكار الشخصية المتحيزة. الفقرة السابقة ملخص للخبر الذي انتشر عن الدكتور واطسن الحاصل على جائزة نوبل قبل أكثر من 50 عاما وواصل بحوثه العلمية بعد ذلك، ولكنه وقع في دائرة المحظور اجتماعيا حين زعم أن الأبحاث التي قام بها تعطيه حق تصنيف الناس ووضعهم درجات في القدرات والملكات، وزعمه أن للأعراق دورا كبيرا في الإبداع والاختراع، ووقع مرة أخرى في محظور المجتمع حين ميز البيض بميزة التفوق والإبداع، وأن قدرات السود تقل عن قدرات البيض ومواهبهم، وأن الفوارق بينهم جينية وليست ثقافية أو جغرافية فحسب. لم يحاول المجتمع الناضج الحي أن يجعلها زلة لسان ويطلب غفرانها للرجل أو يبحث عن تلفيق الأعذار لرجل قدم للعالم أعظم اكتشاف حتى الآن وهو علم الوراثة DNA. لكن المجتمع رأى أن الإنسان نفسه أهم وأكبر من كل الأشخاص وفوق كل الاعتبارات، وأن مكانة الإنسان وكرامته تأتيان أولا، قبل العلم وقبل الاكتشاف والاختراع. دفاع المجتمع الراقي المتحضر ليس دفاعا عن السود ولا غيرهم، ولكنه دفاع عن قيم المجتمع البشري وعن إنسانيته، احتراما لكرامته التي كانت جزءا مهما من السائدة في التاريخ وحتى في الكتب المقدسة والأديان، «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا». نقلا عن صحيفة مكة