التعبير أعلاه ليس كله لي. الأمير (خالد الفيصل)؛ قال في كلمته المدشنة لافتتاح مهرجان سوق عكاظ العاشر 1437ه ما نصه: (عكاظ.. من الوحشة للدهشة)..! بعد هذه المقدمة الباذخة في الدلالات اللفظية والسياسية؛ جاءت فقرات الحفل المميز؛ لتشرح لنا نحن النّظّارة على المسرح الكبير، كيف كان سوق عكاظ في كينونته الأولى، ثم في غيبته الطويلة، ثم في بعثه من مرقده طيلة دوراته التسع الفارطة، وهذا البعث الحضاري لسوق العرب الشعري والأدبي، يُحسب لدولتنا الفتية، ويعد مفخرة من مفاخر إنجازاتها الحضارية والثقافية في هذا العصر. * ليس من سمع كمن رأى وسمع. نعم. وكما قال (خالد الفيصل) أيضًا مخاطبًا أكثر من ستة آلاف مشاهد ومشاهدة في مسرح عكاظ: (كان عكاظ.. غاب عكاظ.. حضر عكاظ). حضر عكاظ لا ليغيب ثانية كما يسعى إلى هذا (الفكر الصحيوني) العامل على هدم الدولة العربية القطرية وإحياء (دولة الخرافة الإسلامية)؛ ولكن ليبقى شاهدًا على تاريخ العرب وحضارتهم، ومنبرًا لشعرهم وآدابهم، ومنارة لقيمهم ومفاخرهم، وفضاءً رحبًا لفنونهم وإبداعاتهم، ونافذة يطلون من خلالها على أرجاء الدنيا كافة، ليقولوا للبعيد والقريب: نحن التاريخ، ونحن الحضارة، ونحن الشعر والأدب والفن والحياة. * نعم.. حضر عكاظ في دورته العاشرة؛ مبهرًا ومدهشًا في الصورة وفي تفاصيل الصورة. استطاع هذا الحضور المبهج مساء الثلاثاء التاسع من أغسطس الجاري، لفت أنظار الناس كافة إلا من أبى، فهذا شأنه. الحشود التي توافدت على مناشط سوق عكاظ الثقافية والفنية والتراثية، كانت في قمة البهاء والذكاء، والتزمت بكل ما يقتضيه الموقف من آداب عامة، ومن سلوك راقٍ، وأخلاق تمثل المجتمع السعودي. هذا المجتمع الذي ينبذ الأوصياء، وينفر من الوصاية المقيتة التي يحاول أقلية متطرفة فرضها عليه بالقوة، وبحجج ومبررات لا سند لها. لم تسجل بحمد الله ولا حالة واحدة تخدش هذا المشهد الحضاري على أرض عكاظ طيلة أيامه الخمسة عشرة. لا تحرش. لا إيذاء. لا مخالفات. الكل يحترم الموقف الكبير، ويقدر الحدث الثقافي الفريد، الذي اتسم هذا العام بمظاهر البهجة والفرح والسرور. * كنت واحدًا من حضور المشهد التاريخي لعكاظ، رأيت لأول مرة الابتسامة المختطفة وهي تعود لشفاه الناس، ولمست الفرحة ترفرف على محيا الكبار قبل الصغار، وعشت بحق؛ أجواء وادي وج والمثناة، وعبق الطائف الحب والسلام والحبور، مع يله يله، وحيوما، والقصيمي، ومع المجرور الطائفي؛ من كلام وألحان وغناء الآباء والأجداد. المجرور الذي هو عنوان أفراح الطائف، وصوت سُمّاره وأسماره في لياليه الملاح. سمعت عن قرب؛ هتاف الآلاف المرحبة بعودة الفرح، وهم يُحيُّون ظهور الفنان الكبير محمد عبده على خشبة المسرح؛ بعد غياب موحش لأربعين سنة. أربعون سنة.. كلها جفوة مفتعلة للفرح والمسرات، وهي التي كانت تميز المجتمع السعودي بكافة فئاته وطبقاته. * هل مثّلت الدورة العاشرة الحالية لعكاظ؛ مرحلة تحولية جديدة في تاريخه المعاصر..؟ نعم.. هذا هو ما عكسته فعالياته الفنية والثقافية والفكرية، ولكن.. ليس وحده سوق عكاظ الذي انتقل من مرحلة التوحش إلى مرحلة الدهشة. وطني كله يعيش اليوم مرحلة تحول مهمة. يعيش اليوم هذه البهجة، ويشهد اليوم هذه الدهشة، التي تمثلت في أفراح الناس وسعادتهم واحتفائهم بموروثاتهم الشعبية، وفنونهم الطربية والموسيقية، في الرياض، وأبها، والشرقية، وجدة، وحائل، ثم في الطائف على أرض عكاظ. * أثبت المجتمع السعودي في مهرجان سوق عكاظ؛ وفي مهرجانات الطائف السياحية، وفي مهرجانات عسيروالرياضوجدة، وفي غيرها من مناطق المملكة، أنه واثق من نفسه، وأنه يستحق ثقة المسؤولين كبارًا وصغارًا، وأنه بقدر ما يرفض الوصاية البغيضة عليه ممن يضمرون سوء النية فيه، ويكرسون الصور السلبية عنه، فهو يرفض التشكيك في سلوكياته، ويعكس بكل إيجابية، ما يدحض أساليب المستفيدين الذين يقتاتون بالظنون والريب. * غنّى الفنان الكبير محمد عبده في حفل الافتتاح على لحن المجرور الطائفي. رائع أبا نورة. لكني شخصيًّا لم أهضم الأبيات المجتزأة من معلقة امرؤ القيس وتركيبها طربيًا على لحن مجرور طائفي رقيق راقص. * ليت أبا نورة لم يقع في شباك امرؤ القيس، ولا في أسر هذا الشعر من معلقته الشهيرة: أفاطِمَ مَهْلاً بَعْضَ هَذَا التَّدَلُّل وإِنْ كُنْتِ قَدْ أدمَعْتِ صَرْمِي فَأَجْمِلِي وَإنْ تكُ قد ساءتكِ مني خَليقَةٌ فسُلّي ثيابي من ثيابِكِ تَنْسُلِ أغَرَّكِ مِنِّي أنَّ حُبَّكِ قَاتِلِي وأنَّكِ مَهْمَا تَأْمُرِي القَلْبَ يَفْعَلِ؟ * ما ضرّ أبا نورة؛ لو أنه غنّى هذا اللحن البديع؛ بكلماته الفلكلورية القديمة التي منها: هيّا عسى خير.. من ما بروحي.. يا لا لا لا له آه.. ومن ما شافت العين العشية هيّا عسى خير.. شافت عيوني.. يا لا لا لا له الحمام الراعدي.. كامل بالأوصاف هيّا عسى خير.. عند ابن عباس.. يا لا لا لا له آه.. ما بين العصر والمغربية هيّا عسى خير.. قلت ارحموني.. يا لا لا لا له آه.. قتلتوني ولا شي حاكم انصاف هيّا عسى خير.. * جاء زمن الدهشة، وزهق زمن الوحشة، فهيّا عسى خير، وإلى خير وابتهاج ومرح وسرور في عكاظ قادم؛ نجومه المبدعون طربًا، وفنّا، وفكرًا، وثقافة، وشعرًا، من وطني المدهش، ومن كافة أوطان العرب من مائهم إلى مائهم.