متى نستطيع نحن أهل هذا البلد المتدين نقاش قضايانا بعيدا عن تصنيف الآخرين بالله تعالى ونصرة دينه؟ متى يتهيأ للناس الإدلاء بآرائهم في معزل عن شبح أختام المصنفين؟ لا إخالنا قادرين على ذلك حتى يتكلم الواقفون مع جبهة الحياد!، أولئك الذين بهم يكثر سواد التنوع، ويقطعون على عشاق التصنيف السبيل، إني لا أحسب شيئا أقدر ولا أقوى في صد طوفان التصنيف من أن يُبادر كل ذي رأي برأيه، نصيحة لله تعالى وللمؤمنين، إنّ تكاثر المتحدثين يحول بيننا وبين صيادي التصنيف، إنهم حينذاك يضحون كخراش المذكور في المثل العربي الشهير، "تكاثرت الظباء على خراش، فما يدري خراش ما يصيد"، وسيصبح الآخذون بمنهجهم أمام تنوع خصب، يُقصي عقلية الجزم والقطع، التي تناسل منها وباء التصنيف، ويمنعهم من خسران كثير من الناس؛ لكن ما دام الحال صمتا في صمت، فلتشرعْ مُدى التصنيف في تقديد أديم المجتمع وأهله! ما أنا من ذوي الفتوى أيها الأخوة فللفتوى مؤسسة ومؤسسات في دولتنا، ولا إخال كثيرا من الكاتبين المانعين من أهل الفتوى أيضا، أنا مسلم أعي عن الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام وأسمع لحجج الناس، أعي عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لأنهما بحمد الله لم يتكلما إلينا بلغة صينية أويابنية، إن كلامهما المحفوظ لنا بلسان عربي، خوطب به الأعرابي الذي يضرب قيعان الأرض بأقدام حافية، فاستطاع أن يفهم ويعي ما يُقال، فكيف بمسلم عاش عمره في ظل الإسلام؟ إنّ مثلي ومثلكم مع كل ما يطرح في ساحة الفكر اليوم مثل الفاروق رضي الله عنه وتلك المرأة التي نهضت محتجة عليه حين رام تحديد مهور النساء، هكذا كان الحال قديما، يسمع الإمام العبقري لما يقوله الناس، ويرضخ له، وليس ككثير من أهل زماننا الذين غلب عليهم التمذهب والتقليد في أصقاع الإسلام المتناثرة، ثم لا يجدون لمعارضهم سوى سوط التصنيف شرقا وغربا، إنهم بشر؛ لكن كأنهم ينطقون بألسنة الأنبياء والمرسلين! طافت في بالي، وأنا أقرأ بعضا مما كتب في هذه النازلة، حكاية الإفك، لقد مكثت أم المؤمنين مع صفوان رضي الله عنهما ولم يخطر ببال زوجها أبي القاسم عليه الصلاة والسلام شيء، مما سيخطر ببال أحدنا اليوم لو حدث لأهله مثل هذا، لم يعن له ريبة ولاكدر، لولا حديث بعض الناس وقالة السوء التي انبعثت من أفواه النفاق، حين أتأمل هذا أشعر أنّ ما يحدث الآن قريب منه؛ لكنه حديث عن المجتمع بعمومه، وليس عن فرد من أفراده، إن الارتياب من المسلمين الذي دفع بعضنا اليوم إلى تحريم شيء، يرون الأصل حله، لا يختلف كثيرا عن ذلك الذي جرى لأمنا حين تهاون بعض المسلمين في ترويج فرية النفاق، فقال الله تعالى لهم ولنا: (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا). حين أقارن بين مجتمعنا اليوم في صراعه وبين مجتمع النبوة الذي كان فيه المنافقون، أقول لنفسي: رأس النفاق تنطلي دخيلته وما يُضمره على المسلمين، فتجري سموم لسانه في أمهم، وتذيع في رؤوس بعض الصحابة، أتظن ذلك المجتمع لو كان يفعل شيئا مما يفعله بعضنا مع بعض اليوم من تحزيب وتصنيف سيُصَدِّق بعضُ مَنْ فيه هراءَ رأس النفاق؟ وإذا لم يمارس التصنيف الأجدر به والأليق، وهو الموحى إليه عليه الصلاة والسلام أفلا يكون أمثالنا أبعد عنه وأنأى؟ وإذا كانت حجة المانعين هي عدم مواءمة الظروف الحالية لقيادة المرأة، فإن بعضهم يُورد نصوصا، يحتج بها على أنّ الأحكام ترتبط بالظروف، وتلك هي القاعدة الشهيرة في سد الذرائع؛ لكني لا أحاور هنا حول القاعدة الشرعية، وإنما أتساءل حول أمرين؛ أولهما بعض الآثار التي احتج بها بعضهم لتطبيق هذه القاعدة على القيادة، وثانيهما ما ينبني إسلاميا على حمل قيادة المرأة على هذه القاعدة. ففي الأول احتج بعضهم بما في البخاري من قوله عليه الصلاة والسلام :" لولا قومك حديثو عهد بكفر لنقضت الكعبة" والحديث ظاهر الدلالة، وواضح المعنى، والسؤال هل حرّم الرسول عليه الصلاة والسلام على نفسه نقض الكعبة؟ أو اختار الترك فقط رعاية للظروف؟ وفرق كبير بين الاختيار في المباحات وتحريم الحلال بسببها! ويتضح ذلك أكثر وأكثر حين نعلم أن المسلمين في عصور الخلفاء الراشدين أبقوا الكعبة على ما كانت عليه، مع أن الناس أضحى الأصل فيهم الإسلام، بل لم يقبلوا بتغيير ابن الزبير حين أقدم عليه، وها نحن اليوم نشاهد الكعبة على ما كانت عليه. ومما يحتج به هؤلاء قول عائشة في مسلم:" لو أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ما أحدث النساء لمنعهن المسجد" فهذه أم المؤمنين تحكي واقع النساء في ذلك الزمان، وهو واقع لم يُرضها؛ لكنها مع ذلك لم تُفتِ بحرمة ذهاب النساء إلى المساجد، أفليست عائشة أعلم وأدرى، فلم سكتت عن التحريم، ولم تتخذ قاعدة سد الذرائع؟ إن هذين النموذجين يوضحان أنّ تطبيق القاعدة الشرعية لا يعني دوما الوجوب أوالتحريم، فثمة اختيار أوكراهة، ولا يعني أيضا أنّ كل ما يؤول إلى محظور تطبق عليه تلك القاعدة، وذا شيء كشفه موقف عائشة رضي الله عنها من النساء. وأما الأمر الثاني فمحرج لنا أيضا، فالناس في العالم الإسلامي كله يعيشون الحال نفسها، فوقوع التحرش شيء وارد، فلا فرق بين المسلم في هذه المملكة والمسلم في تلك الدول، وذا يقود إلى تحريم القيادة في تلك الدول كافة، وهو شيء لن يطيقه المسلمون، مع أن الأصل فيه كما يقولون الحل، وستخرج لنا أفواه الشامتين على الإسلام والمسلمين بما نحن في غنية عنه، وبما أنّ أغلبية المسلمين الساحقة في دولٍ اعتادت النساء فيها على القيادة، فأنا أقترح هنا وربما أخطأت أن يطبق على هذه الحالة حديثلولا قومك حديثو عهد..) فنقول: لولا المسلمون اليوم اعتادوا على القيادة لاخترنا عدمها، فنراعي حال إخواننا البعداء الذين ينظرون إلى علماء هذا البلد نظرة تقدير واحترام، ونشتغل بعد على التفكير في الضمانات التي تحفظ النساء، وتصون أعراضهن، فهذا خير لنا ولهن ولهم. ولعل مما يؤنس لهذا الرأي أن أورد لكم حديث ابن عمر الذي رواه مسلم في خروج المسلمة ليلا إلى المسجد "قال رسول اللَّهِ: ائْذَنُوا لِلنِّسَاءِ بِاللَّيْلِ إلى الْمَسَاجِدِ فقال ابن له يُقَالُ له وَاقِدٌ: إِذَنْ يَتَّخِذْنَهُ دَغَلًا (سببا للفساد) قال فَضَرَبَ في صَدْرِهِ وقال أُحَدِّثُكَ عن رسول اللَّهِ، وَتَقُولُ: لَا". وقبل نهاية هذه الكلمة والتساؤلات أضع بين أيديكم شيئا أخافه، فمما استقر النظر به إلى هذه الأزمان المتأخرة ذلكم المفهوم الوارد ببعض الأحاديث من أن الزمان يزداد فسادا، فلا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه، وإذا كان الفهم الفاشي لهذه الأحاديث صحيحا، ولا أظنه، فسيتخذ قاعدة ومفهوما محوريا في النظر إلى المباحات، ومعنى ذلك أن قاعدة سد الذرائع سيزداد تطبيقها شيئا فشيئا، وذا معناه في النهاية أن تتحول كثير من المباحات إلى محرمات، وهكذا يبدأ الإسلام بمقالة: الأصل في الأشياء الإباحة، وينتهي إلى مقالة: الأصل في الأشياء التحريم، هذا شيء جاد به القلم حرقة على الدين وأهله، فمن رأى فيه خيرا فليشكر، ومن رأى به شرا فليصفح، فما كل رامٍ مصيب. قلا عن الرياض