تلعب البيروقراطيات العامة (الأجهزة الحكومية التنفيذية) في النظام الإداري السعودي دورا متفردا وكبيرا في صناعة السياسات العامة، فهي تجمع إلى حد كبير بين سلطتي التشريع والتنفيذ. هذا التمركز للسلطة في جهة واحدة له أثره الواضح في أداء العمل الحكومي، الذي يمكن وصفه بتحفظ بأنه لم يصل بعد إلى تطلعات القيادة وطموحات المواطنين ويشكل عائقا لجهود التنمية الوطنية. البيروقراطية يفترض أن تكون معنية بالتنفيذ فقط، سواء كان ذلك على صورة تقديم سلع وخدمات أو تطبيق للتنظيمات، فهي جهاز إداري تنفيذي وليس تشريعيا. لقد تركت البيروقراطيات دون رقابة اجتماعية عبر مجالس نيابية منتخبة توجهها وتتابعها وتحاسبها، وتم الاعتماد على بيروقراطيات أخرى تراقبها، ليكون الوضع الإداري برمته يدار ويراقب من خلال البيروقراطيات. لكن ما الضير في ذلك؟! المشكلة الأولى في تمركز السلطة في جهة واحدة، وهذا مدعاة للفساد الإداري، الذي من صوره اللامبالاة وتدني مستوى الخدمات العامة وضياع المال العام. المطلوب بيروقراطيا هو تطبيق الإجراءات الداخلية الروتينية بغض النظر عن النتائج والأثر النهائي على المواطن وتحقيق المصلحة العامة. فتجد أن هناك عملا دؤوبا، لكن في معظمه روتيني ورقي لا يغني ولا يسمن من جوع. هذا الانكفاء على الداخل يجعل عملية صنع القرار العام مرتكزة على توجهات وسياسات الجهاز البيروقراطي الداخلية التي لا تعكس بالضرورة الرأي العام المحلي والاحتياجات الحقيقة للمجتمع كما ونوعا وجودة. وربما فسر ذلك تدني مستوى الكفاءة في الخدمات والمشاريع الحكومية على الرغم من الإنفاق السخي للدولة، وهي المشكلة الثانية لتفرد البيروقراطية بالقرار العام، فالكفاءة تعني إنتاج ما يطلبه المجتمع دون زيادة أو نقصان. والسؤال الذي يبرز هنا كيف للبيروقراطيات العامة أن تدرك احتياجات المجتمع وهي منفصلة تماما عنه من الناحية الإجرائية. ففي ظل غياب مجالس نيابية تمتلك سلطات نافذة على البيروقراطيات العامة يكون هناك انفلات بيروقراطي بحيث تكون العلاقة بين المواطن والجهاز الحكومي علاقة باتجاه واحد على شكل منحة وليس حقا مكتسبا! إن تفرد البيروقراطيات بعملية صنع القرار قد يكون جذور مشكلة الفساد الإداري والسبب الخفي وراء العجز في كثير من الأحيان في تحقيق مستويات أعلى من التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومواجهة تحديات البطالة، على الرغم من توافر الموارد الاقتصادية وقبل ذلك النية الصادقة والعزيمة والإصرار للقيادة السياسية. التنمية الاقتصادية والاجتماعية تتطلب نظاما إداريا عاما يستطيع أن يحملها ويسير بها إلى آفاق أوسع وأرحب من التقدم والتطور. التنمية تعني استكشاف القدرات والإمكانات وتوظيفها توظيفا يعود بالنفع على المجتمع ليس في الوقت الحاضر وحسب، لكن، وهو الأهم، صناعة المستقبل والانتقال بالمجتمع إلى مستويات أعلى من التحضر. لكن كيف السبيل إلى استكشاف القدرات وتحفيزها إذا لم تكن هناك مشاركة حقيقية في عملية صنع القرار تولد إحساسا لدى المواطن بأنه مسؤول وأنه جزء أساس من عملية التنمية؟ الحديث عن مشاركة المواطن في عملية صنع القرارات التي تخصه، ليس من باب الترف أو التقليد الأعمى للآخرين، إنما ضرورة إدارية تحتمها المتغيرات الاقتصادية والثقافية والتقنية، فهناك العولمة وتزايد حدة المنافسة العالمية وضرورة اتخاذ قرارات صحيحة وسريعة وإبداعية، وهناك المتغيرات السكانية الكبيرة والسريعة من زيادة عدد السكان وارتفاع مستوى الحس السياسي، وزيادة نسبة التحضر وتغير أنماط الاستهلاك، هذا إضافة إلى مواجهة التحديات الكبيرة مثل البطالة والإرهاب وغيرهما. ولا شك أن الإرادة السياسية وتطلعات القيادة العنصر الأهم في عملية التنمية تتطلب تنظيما إداريا يستطيع استيعابها وتحويلها إلى واقع ملموس ليس من الناحية المادية وحسب، لكن الأهم إعادة تثقيف المجتمع ليكون أكثر استنارة ثقافيا وأوفر إنتاجا اقتصاديا. أهمية الرقابة الاجتماعية عبر مجالس نيابية منتخبة لم تغب عن بال القيادة السياسية فأنشأت مجالس الشورى والمناطق والمجالس المحلية والبلدية لتكون بمنزلة حلقة وصل بين المواطن والأجهزة الحكومية. لكن هذه المجالس تحتاج إلى تمكينها بتوسيع صلاحياتها ومنحها الاستقلال الإداري والمالي لتؤدي أدوارها كما يراد لها بكفاءة وفاعلية وتخدم المصلحة العامة، التي هي مطلب الجميع. المجالس بجميع مستوياتها أدت أدوارا تتناسب مع مرحلة من النضج الاجتماعي وحان الوقت لتنتقل إلى مرحلة جديدة تنسجم مع الأوضاع الجديدة التي أسهمت الدولة في صناعتها. فقد ارتفعت نسبة التعليم بين المواطنين عبر معاهد وجامعات وطنية في كل المناطق وبعثات لجامعات عالمية مرموقة، وجلبت تقنيات اتصال حديثة وهيأت جميع السبل للرفاهية الاجتماعية، كل ذلك وغيره كثير ارتقى بمستوى الإنسان السعودي وجعله أكثر تحضرا ووعيا وثقافة. ومن هنا كان من الضروري إحداث التوازن المطلوب بين تطوير الإنسان وتطوير النظام الإداري، وهو في جوهره توازن بين قدرات الفرد والمجتمع. فلا يكفي تطوير الأفراد وتعليمهم، إنما أيضا تطوير النظام العام، الذي يدور في فلكه، ليكون أكثر عطاء وإنتاجا. التطوير الإداري المقصود هنا هو تطوير يتعلق بتوزيع الصلاحيات والمسؤوليات اعتمادا على مبدأ فصل السلطات بين الجهات التنفيذية والتشريعية والقضائية وليس تطويرا يختزل في إعادة هيكلة التنظيم الإداري لوزارة أو دائرة حكومية أو تدريب مجموعة من الموظفين. إن الرقابة الاجتماعية على البيروقراطيات تقتضي الأخذ بمبدأ اللامركزية بتعزيز دور المجالس في المناطق والمحافظات في التنمية الاقتصادية والاجتماعية الإقليمية والمحلية. اللامركزية لا تعني بأي حال من الأحوال - كما يظن البعض - إلغاء المركزية، بل على العكس تماما، فتفويض الصلاحيات تجعل السلطات المركزية أكثر تحكما وسيطرة، وهذا أمر مهم في عملية التنمية والضبط الاجتماعي، فبدلا من أن تكون الأجهزة المركزية مسؤولة عن جميع القضايا وكل صغيرة وكبيرة في المناطق والمحافظات تكون مسؤولة فقط عن القضايا التي تهم الوطن بأكمله. هكذا نصل إلى نظام إداري يحقق الفصل بين السلطات على المستوى الأفقي، واللامركزية على المستوى العمودي؛ ما يضمن تحديد المسؤوليات والأدوار والتعرف على من يعمل ماذا وأين مكامن الخطأ ومواطن القصور، ما يجعلنا في وضع نكون فيه أكثر قدرة على القضاء على الفساد الإداري والمالي. الرقابة الاجتماعية مطلب لتحقيق احتياجات المواطن، الهدف الأساس من العمل الحكومي نقلاعن الاقتصادية السعودية