محمود عبدالغني صباغ في المجتمعات المعرفية تحرص الحكومات في إصلاحاتها المتعاقبة على إعادة تجديد طرح قوانين وأنظمة تدعم الابتكار، وروح المبادرة الحرة (Entrepreneurship) لدى الأفراد والشركات، كونها تصب بشكل مباشر في عملية الازدهار الاقتصادي والتنمية المجتمعية. أما نحن فلا نكتفي بإغفال تنمية تلك القطاعات المعرفية فحسب، بل نسعى بكل ما أوتينا من قوة لخنق روح المبادرة والابتكار، وتغليظ قبضتنا أنّى استطعنا.. ومن هذا: “اللائحة التنفيذية لنشاط النشر الالكتروني” - التي وُلدت شائهة مع مُستهل العام الجديد، وخرجت كإمعان في حالة المركزية والتعقيد البيروقراطي، التي لم يكن من داعٍ لتغليبها. الوزارة تريد بسط قبضتها على الحراك الإلكتروني العصي بدوره على الانضباط والتقنين، بكل تسطحاته وشتاته وتفاوته ومرونته وديناميكيته - بل بتوالده وانفجاره المعرفي غير المحدود. أقول ذلك، وكأننا اخفقنا في قراءة الحراك الالكتروني بشكل صائب أو معرفي، وإلا لقد كان الأدعى الخروج بلائحة نظام تُحفّز من خيارات ومؤشرات الاستثمار في النشاط الإلكتروني، وخلق وتنظيم فرص العمل فيه، كما تُنظم من جودة المخرجات الصحافية أو الترفيهية، وتؤسس لأخلاق المهنة ضمن النشاط.. لا مُجرد لائحة تلوّح بالعصا لكل من لا يصيخ أو “يُصحح أوضاعه خلال ستة أشهر” في هذا العالم الافتراضي “المُتفلّت” عن أي عقال! كان الأدعى بالجهة التي تسلمت ملف تنظيم النشاط الالكتروني، وقد بحثت وتمحصت وأوغلت في التمحيص مرات ومرات، أن تخرج برؤية معرفية لا تدير القفا لروح المرحلة ومؤشرات هديرها وأسبابها، وأن تظهر وقد استوعبت ضرورة استغلال واستثمار الحراك الهادر للمصلحة العامة، بدلًا من أن تكتفي بأن تكون مدفوعة بغاية اعادة الناشطين -أو الناشزين- إلى بيت طاعة الأخ الأكبر. أين الوزارة مثلًا من تطوير “نظام عام للابتكار”، مُلحق بلائحة تنفيذية، يضطلع بحفز مبادرات ومشروعات الإنترنت والبرمجة وتطوير شبكات التواصل الاجتماعي والمواقع الاخبارية التي تعمل بأسلوب الصحافي المواطن؟.. أين هي من تصميم صناديق تقديم المنح والهبات المالية وباقي وسائل التدخل الاستشاري والدعم اللوجستي، لكل مبادرات الاتصال والتواصل والإبداع الإلكتروني؟.. بل أين هي عن دعوة وتنظيم نشاط صناديق رأس المال المُخاطر (Venture Capital Investment Fund)، وصناديق الاستثمار الداعمة (Investment Seed Fund).. للمشروعات والمبادرات لدى شبابنا المُبدع، التي تتحطم على صخرة الإهمال والإجحاف، وتضيع هدرًا! آسفون نقول.. إن الوزارة لم تنتبه أو تلتفت بإخلاص واستشراف متبصر للحراك الشبابي الصاعد في مجال الابتكار في عوالم التواصل والإعلام الجديد.. وإلا لما رأينا مُفردات (الحجب) و(المنع) و(التحقيق وأخذ الأقوال)، تطغى وتغلب على مفردات (رعاية المواهب)، و(حماية روح المبادرة الحرة) و(دعم المحتوى الخلاّق والمتنوّع). هل الغاية هي الموافقة على رؤساء تحرير الصحف الالكترونية (كما جاء في المادة السابعة، الفقرة 8)، في وقت تصعد فيه عالميًا أدوار صحافة المواطن (Citizen Journalism)، التي تعتمد على روح الاشتراك والتضامن الشعبي والجماعي، ويقودها مجموعات من الأفراد الذين ينشطون -كلٌ على حدة- في جمع ورصد وتحليل ونشر الأخبار والمعلومات والصور ومقاطع الفيديو والتدوينات المتناهية الصِغر، يلتقطونها ويبثونها من خلال هواتفهم المحمولة الذكية، بشكل لحظي وآني، بعيدًا عن أطر الرقابة التقليدية وضدًا على سلطة رؤساء التحرير التقليدية وباقي التراتبيات المهنيّة - مثلما رأينا في حالة طلاب ايران، ومُتظاهري تونس، ومُتطوعي سيول جدة. على عكس كل ذلك، صدرت اللائحة لتُجافي شروط المنطق، وروح العصر، واتجاهات الإعلام الجديد ومؤشراته، ومجموع التطلعات العامة. وهي ان استطاعة أن تبرم الخيط، فلن تستطيع أن تنظّم الحَبْ والخرز فيه.. وستبقى الأنماط الالكترونية عصية لا ينظمها سلك ولا تؤلّف بينها لائحة. اللائحة التي عددت في المادتين الخامسة والسادسة، اثني عشر شكلًا للنشر الالكتروني “يجب الترخيص لها”، أو “يُمكن تسجيلها”، لم يبق لها سوى اشتراط موافقة الوزارة، على مستخدمي الهواتف الجوالة الشخصية، الذين هم بحسب تعريفات الصحافة الجديدة وصحافة المواطن، رؤساء التحرير الجُدد!. نقلاعن المدينة