يختصر الصباح حياتي ويمنحني عبر نافذتي المطلة على بحر الحياة أنفاساً جديدة ومعاني أخرى للروح. كما يبتلع الصباح الليل بهدوء جميل، فتدبّ الروح في عروق الحياة بثوب أبيض فضفاض بعد ظلام طويل وليل ثقيل وأنفاس بطيئة، يتسارع النبض ويتراقص الفؤاد حتى إذا انتهى ذهب البريق وبقيت لهفتي في انتظاره حتى اليوم التالي. اعتدت أن أقفز بفرح وشقاوة حول أبي في كل صباح، الجميع يغط في نوم عميق بعد سهر طويل، أنا وأبي لا نسهر، ننام أول الليل ونستيقظ باكراً في أولى ساعات الصباح، نجلس في باحة البيت المطلّة على الحديقة. الحديقة تحتفل معنا بمهرجان الصباح، قطرات الندى والياسمين الأبيض والقدّاح وأشجار البرتقال وقمرية العنب الكثيفة. تحذرني أمي دوماً من الضجيج فهي تعلم أني لا أنام في الصباح حتى أيام العطل والإجازات، وعادة لا أجلس هادئة. أول شيء أفعله عندما أخرج من غرفتي، أفتح الستائر على مصراعيها، وأستمتع بشغف لا أجد تفسيراً له.. ويسعدني دائماً انعكاس الضوء والظلال والألوان على الحائط في لوحة سيريالية غامضة، مازلت أبحث عن تلك الخطوط المتراقصة على الحائط في كل صباح. تنهرني أمي لأن صوت الستائر يزعجها، لم أتوقف لكني صرت أفتحها على مهل شديد بلا صوت. في الصباح يدبّ في كياني نشاط وطاقة عجيبة، لا شيء يسعدني مثل الصباح. لا أحب الهدوء، أرسم، أقرأ، أعمل كما توصيني أمي، في أنشطة لا تلائم صباحي، وبما أن الخيارات محدودة فأني أجد متعة في إعادة ترتيب المطبخ. أرجع الصحون والملاعق وأدوات الطبخ من سلة الصحون إلى أماكنها في الدواليب، ثم أقوم بترتيب وإعادة صياغة الدواليب على طريقتي، تصحو أمي ووجها محتقن من الغيظ، لايلبث أن يتحول إلى ابتسامة غاضبة عندما ترى الدولاب. لا أحب سماع فيروز في الصباح كما يفعل أغلب الناس، أعشق صخب العصافير وسمفونيتها الصباحية التي تعزفها مئات الطيور بعشرات الألحان والأنغام، أستمع إليها بعمق، تلك المخلوقات الناعمة تشبهني كثيراً فهي تستيقظ مبكراً مع أول خيوط الفجر ثم لا تلبث أن تهدأ في النهار وتختفي مع حلول الليل، تقفز بمرح ولا تسكت في الصباح. هكذا عشت في بغداد أجمل أيام حياتي، لا أدري إن كانت الحياة جميلة في مكان آخر كما كانت في بغداد، لا أستطيع أن أذكرها بغير ذلك، بغداد تعني ترانيم الصباح والصباح عنوان بغداد. عندما رحلت، قالت سنلتقي كل صباح. حسبت أن الصباح ودعني بلا رجعة بعد رحيلي، ثم أدركت بأن سره وسحره أبعد من كل الحدود وفوق كل ترحال. تركت كل شيء هناك، غرفتي، كتبي، حديقتي، أهلي، إلا الصباح كان معي في كل بلد ومكان. أحببت حلله الجديدة، أنيق دوماً وقادر أن يشعل شموع الفرح في قلبي الحزين، صار له طعم آخر عندما تمتزج خيوطه بأشعة بغداد وحنين ذكرياتها. صرت أستعد لذلك اللقاء في كل بلد مع الصباح. تتناغم الأصوات والصور مع الصباح حتى تكاد تشكل جزءاً من ملامحه، في عمان الأردن كان الصباح غريباً دون صوت بائع الخبز، في الرباط الصباح هدير الأمواج الثائرة والمقاهي المنثورة على امتداد الطريق، في كندا يبدأ الصباح بلوحة بانورامية خالدة ترسمها السماء بألوان مثيرة ومليئة بالقصص والمشاعر، وفي أبوظبي أحتضن الصباح بأشعة صارخة تعكس ظلال النخيل مع صياح الديك. الصباح ذكريات حية وطفولة بريئة ورغيف ساخن، مجرد من الأقنعة والنفاق والمجاملات الثقيلة. مازلت أنتظر الصباح كل يوم بلهفة وشوق لأعرف ما يخبئه لي، تفاصيل صغيرة ومسرات لايراها إلا من يعرف لغة الصباح.