قبل أعوام، كنت أسير في أحد شوارع «واشنطن دي سي» التجارية، حين أشارت لي عرافة عجوز تجلس على كرسي بلاستيكي. كانت في زاوية قريبة من المتاجر الممتدة على ذلك الشارع الحيوي. ولأنني قد تعبت من المشي، شعرت بإغراء أن أستريح على الكرسي الآخر الذي وضع جانبها، وتملكني بعض الفضول لأرى ما تقدمه من بضاعة الكلام. ألقيت أكياسي وحقيبتي أمامي وجلست أتسلى «حرفيا» مع هذه الأمريكية البدينة. تأملتني سريعا وهي تضع خصلات شعرها الرمادية خلف أذنيها، ووجهها الأجعد الشاحب لطفته ورود فستانها الأبيض القطني القصير، فأعطته انعكاسات سيدة طيبة ساذجة. طلبت مني أن أنقدها عشرين دولارا لتحكي لي عن تنبؤاتها. خلطت الأوراق بسرعة مفتعلة. وفجأة وجدتُ أوراق «التارو» تصطف أمامي كدفتر غامض لصور مختلفة تحاول قراءتها لي. والتارو، لمن لا يعرفها، هي أوراق تستخدم في الكشف لدى العرافات البصارات عادة، ويمكن أن نراها في المسلسلات المدبلجة للغجريات. ومنذ أن بدأت تلك العرافة سرد ما رأته لي، ضحكتُ بصورة أربكتها، إلا أنني صمتُّ بجهد دون أن أخفي ما تبقى من ابتسامة. كانت في قراءتها تتحدث كما لو كنت مواطنة أمريكية تماما. فأحداث حياتي مرتبطة بواشنطن وبولاية فيرجينيا كما تظهر رسومات التارو، وصغاري وأبوهم المستقبلي قريبون من الشارع الذي يقطنه مبنى البنتاجون. في الحقيقة راقني الاستماع، لأنني تحولت إلى شخصية جديدة. شخصية كأنني أقرؤها في رواية خيالية محبوكة. هذه العرافة باختصار كان ينقصها لممارسة هذه اللعبة، التي يمارسها العرافون، أن تعرف حيثيات الأوضاع لتتنبأ بما هو آت. أما ما تقوم به هذه البدائية فخزعبلات مكشوفة. وهي لم تكن تتحدث سوى للشخص الخطأ في المكان الخطأ دون معرفة أساسيات تستند إليها. لذا لم تخدمها تلك التنبؤات المعلبة. أما العراف عبدالحميد البكري، الذي أدى دوره عادل إمام في المسلسل الرمضاني الناجح لهذا العام، فلم يظهر في وجه واحد فحسب. لقد كان محترفا يعرف كلّ ما يدور حوله حتى سُمّي «العرّاف». وإن كانت «الحرفنة»، التي امتهنتها شخصية البكري في العراف تثير كثيرا من العجب والسخرية من الواقع في آن، فإنه استطاع تشكيل مساراته بدهاء. نصّاب محترف يخدمه الحظ ليتنقل من محافظة إلى أخرى وينتحل شخصيات بمناصب مهمة. من لواء متقاعد يهوى صيد السمك، إلى رجل أعمال ثري من بور سعيد، إلى دكتور مشهور يمارس الطب في المنصورة، إلى سفير في وزارة الخارجية، فمحام قدير، وتاجر أنتيكات محنك، فاستشاري تجميل شهير في بيروت، وفلكي وعراف ذائع الصيت في العالم العربي، وأخيرا سجين هارب ومرشح لمنصب الرئيس! ولكي تكون عرافا جيداً، ليس على طريقة البكري على أية حال، وليس على طريقة العجوز الأمريكية، بل عرافا تتنبأ وتعرف الأمور بمعطيات حقيقية، ينبغي أن تدرس الوقائع جيدا. أن تلقي المصباح على أمثلة واقعية، وتشير إلى نقطة حيوية، وهي كيف نتعامل مع واقعنا المتعدد الأبعاد بخبرة العرافين. وكيف لنا أن نتنبأ لمستقبلنا القادم استنادا على معطيات الحاضر فعلا. هذا ينطبق على أمور كثيرة تختص بنا أفرادا ومجتمعات وحكومات، إذ يمكن لنا أن نسقط ذلك على أمور عدة. حين يخرج المنجمون على شاشات الفضائيات ليلة رأس السنة، ويلمحون بغموض مفتعل، إلى قضايا مصيرية للبلدان والشعوب والرياضة والإعلام والفن وأزمة المياه والاحتباس الحراري، هم في الواقع يستندون على الوقائع الأساسية. الوقائع التي يستخرجون منها افتراضاتهم وفرضياتهم. يدرسون توقعات الأحداث وأين تسير. بطريقة أشبه بالعملية الاستخباراتية، فيستخدمون منتجاتهم من تلك المعرفة تجاريا. الأوضاع الشخصية، الاجتماعية، السياسية، كلها قابلة لرمزية العرافة الفكرية. وذلك إذا ما شئنا معرفة الحصاد بطبيعة الحال. لذا فالحصيف هو من يتوقع جيدا نهايات الطريق، فيرى إذا كان آخر النفق ضوء أم ليس سوى نفق آخر. ولا بأس من شراب الليمون بالنعناع على طريقة البكري عادل إمام. يقول الشاعر عروة بن حزام، الذي لجأ إلى العرافين، هو المتيم في حب ابنة عمه عفراء: جعلتُ لعرّاف اليمامة حكمهُ وعرّاف نجدِ إن هما شفياني فقالا نعم يشفى من الداء كله وقاما مع العوّاد يبتدرانِ فما تركا من رقيةِ يعلمانها ولا سلوة إلا وقد سقياني فقالا شفاكَ الله، والله ما لنا بما ضمنت منك الضّلوع يدانِ